صفحة جديدة 1
وإن كانَ الإصْلاح بِزيَادةِ سَاقطٍ، فإن لَمْ يُغَاير مَعْنَى الأصْلِ، فهُوَ
عَلَى ما سَبَقَ.
وإنْ غَايرَ تأكَّد الحُكْم بِذِكْر الأصْلِ مَقرونًا بالبَيَان، فإنْ عَلِم أنَّ
بعض الرُّواة أسْقطهُ وحده فَلَهُ أيضًا أن يُلحقه في نفسِ الكِتَاب مع كلمة
(يعني)،
كما فعل الخَطِيب، إذ رَوَى عن أبي عُمر بن مهدي، عن المحاملي، بسنده إلى عُروة، عن
عَمْرةَ يعني عن عائشة قالت: كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُدْني إليَّ
رأسهُ فأُرَجّله
قال الخَطيب(38): كان في أصل ابن مهدي: عن عَمْرة قالت: كان. فألحقنا فيه ذكر
عائشة، إذ لم يكن منه بد، وعلمنا أنَّ المحاملي كذلك رواه، وإنَّما سقط من كِتَاب
شيخنا، وقلنا له ما فيه، (يعني) لأنَّ ابن مهدي لم يَقُل لنا ذلك.
قال: وهكذا رأيتُ غير واحد من شُيوخنا يفعل في مثل هذا.
هذا إذَا عَلِمَ أنَّ شيخهُ رواهُ على الخطأ، فأمَّا إن رواهُ في كِتَاب نفسهِ
وغَلبَ على ظَنِّه أنَّه من كِتَابهِ، لا من شَيْخه فيتَّجه إصْلاحهُ في كِتَابه
وروايته.
كمَا إذَا درسَ من كِتَابهِ بعض الإسْنَاد، أو المَتْن، فإنَّه يَجُوز اسْتِدْراكهُ
من كِتَاب غيره إذَا عرفَ صحَّتهُ، وسَكَنتْ نفسهُ إلى أنَّ ذلكَ هو السَّاقطُ.
كَذَا قَالهُ أهلُ التَّحقيق، ومَنَعهُ بعضهم.
وبيانهُ حالَ الرِّواية أوْلَى.
وهكذَا الحُكْم في استثبات الحَافظ ما شكَّ فيهِ من كِتَاب غَيْره، أو حِفْظه،
فإنْ وَجَدَ في كِتَابهِ كلمةً غيرَ مَضْبوطة أشْكَلت عليهِ جَازَ أن يَسْأل عنها
العُلماء بِهَا، ويَرْويهَا على ما يُخْبرونهُ.
السَّابع: إذَا كانَ الحَدِيث عندهُ عن اثْنين أو أكثر، واتَّفقا في المَعْنَى دون
اللَّفظ فَلَهُ جَمْعهما في الإسْنَاد، ثمَّ يسُوق الحديث على لَفْظ أحدهما
فيَقُول: أخْبَرنَا فُلان وفلان، واللَّفظ لفلان، أو هذا لفظُ فُلان قال، أو قالا:
أخبرنا فُلان، أو نحوهُ من العِبَارات.
ولمُسْلم في «صحيحه» عِبَارة حسنةٌ، كقوله: حدَّثنا أبو بَكْر وأبو سَعِيد، كلاهما
عن أبي خالد، قال أبو بَكْر: حدَّثنا أبو خالد عن الأعْمَش، فظاهرهُ أنَّ اللَّفظ
لأبي بَكْر.
فإن لم يَخُصَّ فقال: أخبرنا فُلان وفُلان وتَقَاربا في اللَّفظ، قالا: حدَّثنا
فُلان، جَاز على جَوَاز الرِّواية بالمَعْنَى، فإن لم يَقُل: تَقَاربا، فلا بأس به
على جَوَاز الرِّواية بالمَعْنَى، وإن كان قد عِيبَ به البُخَاري أو غيرهُ، وإذا
سمعَ من جَمَاعة مُصنَّفًا، فقَابلَ نُسْخته بأصْلِ بعضهم، ثمَّ رواهُ عنهم، وقال:
اللَّفظ لفلان، فيُحتمل جَوَازهُ ومَنْعه.
الثَّامن: ليسَ لهُ أن يَزِيد في نَسَب غير شَيْخهِ، أو صِفَته، إلاَّ أن يُميِّزهُ
فيقول: هو ابن فُلان الفُلاني، أو يعني ابن فُلان، ونحوه، فإن ذكر شيخه نَسَب
شَيْخه في أوَّل حديث، ثمَّ اقتصرَ في باقي أحَاديث الكِتَاب على اسْمهِ، أو بعض
نَسَبه، فقد حَكَى الخَطيب عن أكْثَر العُلماء جَوَاز رِوَايته تلكَ الأحَاديث
مَفْصُولة عن الأوَّل، مُسْتوفيًا نَسَب شيخ شيخهِ، وعن بَعْضهم: الأوْلَى أن يقول:
يعني ابن فُلان، وعن علي بن المَدِيني وغيره يَقُول: حدَّثني شَيْخي: أنَّ فُلان
ابن فُلان حدَّثه، وعن بَعْضهم: أخبرنا فُلان، هو ابن فُلان، واستحبَّهُ الخَطيب،
وكُلُّه جَائزٌ، وأوْلاهُ هو: ابن فُلان، أو يعني ابن فُلان، ثمَّ قوله: أنَّ فُلان
ابن فُلان، ثمَّ أن يذكره بكماله من غير فَصْل.
التَّاسعُ: جَرَت العَادة بِحَذْف قال ونحوه بين رِجَال الإسْنَاد خطًّا، ويَنْبغي
للقارئ اللَّفظ بها، وإذا كَانَ فيه: قُرئ على فُلان، أخبركَ فُلان، أو قُرئ على
فُلان، حدَّثنا فُلان، فليَقُل القارئ في الأوَّل: قيل له: أخبركَ فُلان، وفي
الثَّاني: قال حدَّثنا فُلان.
وإذَا تكرَّر لفظُ (قال) كقوله: (حدَّثنا صالح، قال: قال الشَّعبي) فإنَّهم يحذفون
أحدهما خطًّا، فليَلْفظ بهما القَارئ، ولو تركَ القَارئ قال في هذا كُلِّه فقد
أخطأ، والظَّاهر صِحَّة السَّماع.
العَاشرُ: النُّسَخ والأجْزاء المُشْتملة على أحاديث بإسْنَاد واحد، كنُسْخة
همَّام، عن أبي هُريرة:
منهم مَنْ يُجدد الإسْنَاد أوَّل كلِّ حديث، وهو أحوط.
ومنهم مَنْ يَكْتفي به في أوَّل حديث، أو أوَّل كلِّ مَجْلس، ويُدْرِج البَاقي عليه
قائلاً في كلِّ حديث: وبالإسْنَاد، أو وبه، وهو الأغْلب، فمَنْ سَمِعَ هكَذَا
فأرادَ رواية غير الأوَّل بإسْنَاده جَازَ عند الأكْثَرينَ، ومَنَعَهُ أبو إسْحَاق
الإسْفراييني وغيرهُ.
فعَلَى هَذَا طريقهُ أنْ يُبيِّن، كقول مُسْلم: حدَّثنا محمَّد بن رافع، حدَّثنا
عبد الرزاق، أنا مَعْمر، عن همَّام قال: هذا ما حدَّثنا أبو هُريرة، وذكر أحاديث
منهَا: وقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أدْنَى مَقْعد أحدكُم ...» وذكر
الحديث،
وأمَّا البُخَاري فإنَّه لم يسلك قاعدة مُطَّردة، فتارة يذكر أوَّل حديث في
النُّسْخة، ويعطف عليه الحديث الَّذي ساق الإسْنَاد لأجله، كقوله في الطهارة(54):
حدَّثنا أبو اليَمَان، أخبرنا شُعيب، حدَّثنا أبو الزِّناد، عن الأعْرَج أنَّهُ سمع
أبا هُريرة، أنَّهُ سمعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحنُ الآخرُونَ
السَّابقون ...» وقال: «لا يَبُولنَّ أحدكُم في المَاء الدَّائم ...» الحديث
وكَذَا فعلهُ كثيرٌ من المُؤلِّفين، وأمَّا إعَادة بعض الإسْنَاد آخر الكِتَاب فلا
يرفع هذا الخِلاف، إلاَّ أنَّه يُفيد احتياطًا وإجَازة بَالغة من أعْلَى أنْوَاعهَا.
الحَادي عَشَر: إذا قدَّم المَتْن كقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو
المَتْن وآخر الإسْنَاد كرَوَى نَافع عن النَّبي صلى الله عليه وسلم كَذَا، ثمَّ
يَقُول: أخبرنا به فُلان، عن فُلان، حتَّى يتَّصل، صَحَّ وكان مُتَّصلاً، فلو أرادَ
مَنْ سَمعهُ هكذا تَقْديم جَمِيع الإسْنَاد، فجَوَّزه بعضهم، ويَنْبغي فيه خِلاَف،
كتقديم بعض المَتْن على بعض، بناء على مَنْعِ الرِّواية بالمَعْنَى.
ولو رَوَى حديثًا بإسْنَاد، ثمَّ أتْبَعهُ إسْنَادًا قال في آخرهِ: (مِثْلهُ)،
فأرادَ السَّامع روايةَ المَتْن بالإسْنَاد الثَّاني، فالأظْهر مَنْعه، وهو قول
شُعبة، وأجَازه الثَّوْري وابن مَعِين إذا كان مُتحفِّظًا، مُميَّزا بينَ
الألْفَاظ، وكانَ جَمَاعةٌ من العُلمَاء إذَا رَوَى أحدهُم مثلَ هذا ذكر الإسْنَاد،
ثمَّ قال: مثل حديث قبلهُ متنهُ كَذَا، واخْتَار الخَطِيب هَذَا، وأمَّا إذا قَالَ:
(نحوهُ)، فأجَازهُ الثَّوْري، ومَنعهُ شُعْبة وابن مَعِين..
قال الخَطِيبُ: فَرْقُ ابن مَعِين بين (مثله ونحوه) يَصحُّ على مَنْع الرِّواية
بالمَعْنى، فأمَّا على جَوَازها فلا فَرْق.
قال الحَاكمُ: يَلْزمُ الحَدِيثي من الإتْقَان أنْ يُفرِّق بين (مثله ونحوه)، فلا
يحلُّ أن يَقُول: (مِثْلهُ) إلاَّ إذَا اتَّفقَا في اللَّفظ، ويحلُّ: (نحوهُ) إذا
كانَ بمعناهُ.
الثَّاني عَشَر: إذا ذكر الإسْنَاد وبعضَ المَتْن، ثمَّ قال: وذكرَ الحديث، فأرادَ
السَّامع رِوَايتهُ بِكَمَالهِ، فهو أَوْلَى بالمَنْع من مِثْله ونحوه، فمَنَعهُ
الأسْتاذ أبو إسْحَاق، وأجَازهُ الإسْمَاعيليُّ إذَا عَرَف المحدِّث والسَّامع ذلك
الحديث، والاحتياطُ أن يَقْتصر على المَذْكُور، ثمَّ يقُول: قال، وذكر الحديث، وهو
هكَذَا، ويسوقهُ بكَمَاله، وإذَا جُوِّز إطْلاقه، فالتَّحْقيق أنَّهُ بطريق
الإجَازة القَوِيةِ فيمَا لَمْ يذكرهُ الشَّيْخ، ولا يَفْتقرُ إلى إفْرادهِ
بالإجَازةِ.
الثَّالث عَشَر: قال الشَّيْخ: الظَّاهر أنَّهُ لا يَجُوز تَغْيير: قال النَّبي صلى
الله عليه وسلم إلى قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولا عَكْسهُ، وإن جَازَت
الرِّواية بالمَعْنَى لاخْتلافهِ، والصَّواب والله أعْلَم جَوَازه، لأنَّه لا
يَخْتلف به هُنَا مَعْنَى، وهو مَذْهب أحمد ابن حَنْبل، وحمَّاد بن سَلَمة،
والخَطِيب.
الرَّابع عَشَر: إذَا كَانَ في سَمَاعهِ بَعْض الوَهَنِ فَعَليهِ بيانهُ حالَ
الرِّوايةِ، ومنهُ إذَا حدَّثهُ من حِفْظهِ في المُذَاكرة، فليَقُل: حدَّثنا
مُذَاكرةً، كما فعلهُ الأئمةُ، ومَنعَ جَمَاعةٌ منهم الحَمْل عنهُم حالَ
المُذَاكرة، وإذَا كانَ الحديثُ عن ثِقَةٍ ومَجْرُوح، أو ثِقَتين، فالأوْلَى أن
يَذْكُرهمَا، فإن اقْتَصرَ عَلَى ثِقَةٍ فيهما لم يَحْرُم.
وإذَا سمعَ بعضَ حَدِيثٍ من شَيْخٍ، وبعضهُ من آخَرَ، فرَوَى جُملتهُ عنهمَا
مُبيّنًا أنَّ بعضهُ عن أحدهما، وبعضهُ عن الآخر جَاز، ثمَّ يَصِير كلُّ جُزء منهُ
كأنَّه رَواهُ عن أحدهمَا مُبْهمًا، فلا يُحتجُّ بِشَيء مِنهُ إنَ كانَ فيهما
مَجْروحٌ، ويَجِبُ ذِكْرهما جَمِيعًا مُبيِّنًا أن عن أحدهمَا بعضه، وعن الآخرِ
بعضه. والله أعلم.
النَّوع السَّابع والعِشْرون: معرفة آداب المُحدِّث
عِلْمُ الحَديثِ شريفٌ، يُنَاسب مَكَارم الأخْلاقِ، ومَحَاسن الشِّيَم، وهو من
عُلوم الآخِرَةِ، مَنْ حُرِمهُ حُرِمَ خَيْرًا عَظيمًا، ومَنْ رُزقهُ نالَ فَضْلاً
جَزِيلاً؛ فَعلَى صَاحبهِ تَصْحيحُ النِّيَّة، وتَطْهيرُ قلبه من أغْرَاض الدُّنيا.
واخْتُلف في السِّن الَّذي يتصدَّى فيه لإسْمَاعه.
فقال ابن خلاَّد: إذَا بلغَ الخمسين، لأنَّها انْتهاء الكُهولة، وفيها مُجْتمع
الأشد.
قال: ولا يُنكَر عند الأربعين، لأنَّها حد الاستواء، ومنتهى الكمال، وعندها ينتهي
عزم الإنسان وقوته، ويتوفر عقله، ويجود رأيه.
وأنكر ذلك القاضي عياض وقال: كم من السَّلف فمَنْ بعدهم من لم ينته إلى هذا السن،
ونشرَ من الحديث والعلم ما لا يُحصَى، كعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جُبير،
وإبراهيم النَّخعى، وجلس مالك للنَّاس ابن نيف وعِشْرين، وقيلَ: ابن سبع عشرة
سَنَة، والنَّاس مُتوافرُونَ، وشُيوخه أحْياء، رَبيعة، والزُّهْري، ونافع، وابن
المُنْكدر، وابن هُرْمز، وغيرهم، وكذلك الشَّافعي وأئمة من المُتقدِّمين
والمُتأخِّرين، وقد حدَّث بنْدار، وهو ابن ثماني عشرة، وحدَّث البُخَاري وما في
وجهه شعرة، وهلمَّ جرًّا.
والصَّحيح أنَّه مَتَى احْتِيجَ إلى ما عندهُ جلسَ له في أي سنٍّ كانَ، ويَنْبغي أن
يُمْسك عن التَّحْديث إذا خَشِيَ التَّخليط بهَرَمِ، أو خَرَفٍ، أو عَمى، ويَخْتلفُ
ذلك باختلاف النَّاس.
فصلٌ: الأوْلَى أن لا يُحدِّث بِحَضْرة مَنْ هُو أوْلَى منهُ، لسنِّه، أوْ عِلْمهِ،
أو غَيْرهِ، وقيلَ: يُكْرهُ أنْ يُحدِّث في بلدٍ فيهِ أوْلَى منهُ
وروى البَيْهقي في «المدخل» بسند صحيح عن ابن عبَّاس، أنَّه قال لسعيد بن جُبير:
حَدِّث. قال: أُحدِّث وأنت شاهدٌ؟ قال: أو ليس من نِعَم الله عليك أن تُحدِّث وأنا
شاهد، فإن أخطأت علمتك.
قلت: الصَّواب إطلاق أنَّ التَّحديث بحضرة الأوْلَى ليس بمكروه، ولا خِلاف، فقد
استنبط العُلماء من حديث: إنَّ ابني كان عَسيفًا ... الحديث، وقوله: سألتُ أهل
العلم فأخبروني ... أنَّ الصَّحَابة كانُوا يُفتون في عهد النَّبي صلى الله عليه
وسلم وفي بلده
ويَنْبغي لهُ إذَا طُلبَ منهُ ما يعلمهُ عندَ أرْجحَ منهُ، أنْ يُرْشد إليهِ،
فالدِّينُ النَّصيحةُ.
ولا يَمْتنع من تَحْديث أحد لِكَونهِ غيرَ صَحيح النِّيَّة، فإنَّه يُرجَى
صحَّتُها،
وقال معمر: إنَّ الرَّجُل ليَطْلُب العلم لغيرِ الله، فيأبَى عليه العلم حتَّى يكون
لله
قال مَعْمر، وحبيب بن أبي ثابت: طلبنا الحديث وما لنا فيه نية، ثمَّ رزق الله النية
بعد
وليَحْرص على نَشْرهِ، مُبْتغيًا جَزِيلَ أجْرهِ.
فصلٌ: ويُسْتحبُّ لهُ إذَا أرادَ حُضُور مَجْلس التَّحْديث، أن يَتَطهَّر،
ويَتَطيَّب، ويُسرِّح لحيتهُ، ويَجْلس مُتَمكنًا بوقَارٍ، فإن رفعَ أحدٌ صَوْتهُ
زَبَرهُ،
فقد كانَ مالك يفعل ذلك أيضًا ويقول: قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾[الحجرات:2]
فمَنْ رَفَع صوتهُ عند حديثه، فكأنَّما رفعَ صوتهُ فوق صوته.
ويُقْبلَ على الحَاضرينَ كُلهم، ويَفْتتحُ مَجْلسهُ ويختتمهُ بتحميدِ الله تعالى،
والصَّلاة على النَّبي صلى الله عليه وسلم، ودُعاءٍ يَليقُ بالحَال بعد قِرَاءة
قَارئ حَسَن الصَّوت شَيئًا من القُرْآن العَظِيم، ولا يَسْرد الحَدِيث سَرْدًا
يَمْنعُ فَهْم بَعْضه.
فصلٌ: يُستحبُّ للمُحدِّث العَارف عَقْدُ مَجْلسٍ لإمْلاء الحَدِيث، فإنَّه أعْلَى
مَرَاتبِ الرِّواية، ويَتَّخذُ مُسْتمليًا مُحصّلاً مُتَيقِّظًا يُبلِّغ عنهُ إذَا
كثُرَ الجَمْع على عَادةَ الحُفَّاظ.
ويَسْتملي مُرتفعًا، وإلاَّ قَائمًا،
[ويَسْتملي مُرْتفعًا] على كُرسي ونحوه [وإلاَّ قائمًا] على قدميه، ليَكُون أبلغ
للسَّامعين
وعَليهِ تَبْليغ لَفْظه على وجْههِ، وفَائدةُ المُسْتملي تَفْهيم السَّامع على
بُعْدٍ، وأمَّا مَنْ لم يَسْمع إلاَّ المُبلِّغ فلا يَجُوز لهُ رِوَايتهُ عن
المُمْلي، إلاَّ أن يُبيِّن الحال، وقد تقدَّم هذا في الرَّابع والعِشْرين،
ويَسْتنصت المُسْتملي النَّاس
ففي «الصَّحيحين» من حديث جَرِير أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له:
«اسْتَنصت النَّاس»
بعد قِرَاءة قارئٍ حَسَن الصَّوت شَيئًا من القُرآن، ثمَّ يُبَسمل ويَحْمد الله
تَعَالَى.
ويُصلِّي على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ويتحرَّى الأبْلَغ فيه، ثمَّ يَقُول
للمُحدِّث: مَنْ؟ أو ما ذَكَرت رحمكَ الله؟ أو رَضِي عنكَ، وما أشبههُ.
وكُلَّما ذكر النَّبي صلَّى عليه وسلَّم، قال الخَطيبُ: ويرفعُ بِهَا صوتهُ، وإذا
ذكر صحابيًا رضي عليه، فإن كان ابن صَحَابي قال: رضي الله عنهما
ويَحْسُن بالمُحدِّث الثَّناء على شيخهِ حال الرِّواية بما هو أهلهُ، كما فَعَلهُ
جَمَاعات من السَّلف
كقول مَسْروق: حدَّثتني الصِّديقة ابنة الصِّديق، حبيبة حبيب الله المُبرَّأة.
وكقول وكيع: حدَّثنا سُفيان أمير المؤمنين في الحديث.
كقول أبي مُسْلم الخَوْلاني: حدَّثني الحبيب الأمين عوف بن مُسلم
وليَعْتن بالدُّعاء له فهو أهم.
ولا بَأْس بذِكْرِ مَنْ يَرْوي عنهُ بلقبٍ، أو وَصْفٍ، أو حِرْفةٍ، أو أُمٍّ عُرفَ
بهَا، ويُسْتحبُّ أن يَجْمع في إمْلائهِ جَمَاعةً من شُيوخه، مُقدِّمًا أرجحَهُم،
ويروي عن كلِّ شَيْخٍ حديثًا، ويختارَ مَا عَلا سندُهُ، وقَصُر مَتْنهُ،
والمُسْتفاد منهُ ويُنبِّهُ على صحَّتهِ، وما فيهِ من عُلو وفَائدةٍ وضَبْطِ
مُشْكل، وليَجْتنب مَا لا تَحتملُه عُقولهم، وما لا يفهَمُونه.
ويَخْتمُ الإمْلاء بحكَايَاتٍ ونَوَادر وإنْشَاداتٍ بأسَانيدها، وأَوْلاهَا ما في
الزُّهْد والآداب ومَكَارم الأخْلاق، وإذا قَصّرَ المُحدِّث أو اشتغلَ عن تخريج
الإمْلاء اسْتعَان ببعضِ الحُفَّاظ، وإذا فرغَ الإملاء قابلهُ وأتقنه. والله أعلم