صفحة جديدة 1
النَّوع الثَّامن والعِشْرون: معرفة آداب طالب الحديث
قد تَقَدَّم منهُ جُمل مُفرَّقة، ويجبُ عليهِ تَصْحيح النِّيَّة، والإخْلاص لله
تعالى في طَلَبهِ، والحَذَرُ من التَّوصُّل به إلى أغْرَاض الدُّنيا، ويسأل الله
تعالى التَّوفيق والتَّسْديد والتَّيْسير، وليَسْتعمل الأخْلاق الجَمِيلة والآداب،
ثمَّ ليُفرغ جُهْدهُ في تحصيلهِ ويَغْتنم إمْكَانه.
ويَبْدأ بالسَّماع من أرْجَح شُيوخ بَلَدهِ إسْنَادًا، وعِلْمًا، وشُهْرةً، ودينًا،
وغيرهُ، فإذا فرغَ من مُهمَّاتهم فليَرْحل على عَادةِ الحُفَّاظ المُبرزين.
ولا يَحْملنَّهُ الشَّره على التَّساهُل في التَّحمُّل، فيُخلّ بشيء من شُرُوطهِ،
ويَنْبغي أن يُسْتعمل ما يَسْمعهُ من أحَاديث العِبَادات والآداب، فذلكَ زَكَاةُ
الحَدِيث وسبب حِفْظهِ.
فقد قال بِشْر الحافي: يا أصْحَاب الحديث أدُّوا زكاة هذا الحديث، اعملُوا من كلِّ
مائتي حديث بخمسة أحاديث.
وقال عَمرو بن قيس المُلائي: إذا بلغكَ شيء من الخير فاعمل به ولو مرَّة تَكُن من
أهله.
وقال أحمد ابن حنبل: ما كتبت حديثًا إلاَّ وقد عملتُ به، حتَّى مر بي: أنَّ النَّبي
صلى الله عليه وسلم احْتَجمَ وأعَطَى أبا شيبة دينارًا، فاحتجمتُ وأعطيتُ الحَجَّام
دينارًا.
فصلٌ: ويَنْبغي أن يُعظِّم شيخهُ ومَنْ يسمعُ منهُ، فذلكَ من إجْلالِ العلم
وأسْبَابِ الانْتفاع، ويعتقد جَلالةَ شَيْخهِ ورُجْحانه، ويتحرَّى رِضَاهُ، ولا
يُطَوِّل عليه بحيثُ يُضْجرهُ، وليَسْتشرهُ في أُمُوره، وما يَشْتغلُ فيهِ،
وكَيْفيةِ اشْتغَالهِ، ويَنْبغي لهُ إذَا ظَفَرَ بسماعٍ أن يُرشدَ إليه غيرهُ،
فإنَّ كِتْمانه لُؤم يقعُ فيه جَهَلةُ الطَّلبة، فيُخَاف على كاتمه عدم الانْتفَاع،
فإنَّ من بركة الحديث إفَادته، ونَشْره يُمنٌ.
وقال ابن مَعِين: مَنْ بَخِلَ بالحديث وكتمَ على النَّاس سماعهم لم يُفلح، وكذا قال
إسْحَاق بن راهويه.
وقال ابن المُبَارك: مَنْ بَخِلَ بالعلم ابْتُلي بثلاث: إمَّا أن يموت فيذهب
عِلْمهُ، أو يَنَسى، أو يتبع السُّلطان.
وليَحْذر كُلَّ الحَذَرِ من أن يمنعَهُ الحَيَاءُ والكِبْرُ من السَّعي التَّام في
التَّحْصيل وأخْذِ العِلْم مِمَّن دُونهُ في نَسبٍ، أو سِنٍّ، أو غيرهُ
فقد ذكر البُخَاري عن مُجَاهد قال: لا يَنَال العِلْم مُستحيي، ولا مُسْتكبر.
وقال وكيع: لا يَنبُل الرَّجُل من أصْحَاب الحديث حتَّى يكتب عمَّن هو فوقه، وعمَّن
هو مثله، وعمَّن هو دونه.
وليَصْبر عَلَى جَفَاء شَيْخهِ، وليَعْتنِ بالمُهمِّ، ولا يُضَيِّع وقتهُ في
الاسْتكثَار من الشِّيوخ لمُجَرَّد اسم الكَثْرة
وصيتها، فإنَّ ذلك شيء لا طائل تحته.
وليَكْتُب وليَسْمع ما يقعُ لهُ من كِتَابٍ، أو جُزء بِكمَالهِ، ولا يَنْتخب، فإن
احْتَاجَ تَوَلّى بنفسهِ، فإن قَصّرَ عنهُ اسْتَعان بِحَافظٍ
[فإن احتاج إليه] أي: إلى الانتخاب، لكون الشَّيْخ مُكثرا، وفي الرِّواية عَسِرًا،
أو كون الطَّالب غريبًا، لا يُمكنه طُول الإقَامة.
فصلٌ: ولا يَنْبغي أن يَقْتصرَ على سَمَاعهِ وكَتْبهِ دُونَ مَعْرفتهِ وفَهْمهِ.
فَلْيتعرَّف صحَّته، وضَعْفه، وفِقْهه، ومَعانيه، ولُغته، وإعْرَابه، وأسْماء
رِجَاله، مُحقِّقاً كُلّ ذلك، مُعْتنيًا بإتْقَان مُشْكلها، حِفظًا وكِتَابة،
مُقدمًا «الصَّحيحين» ثمَّ «سنن» أبي داود، والتِّرمذي، والنَّسائي.
ثمَّ «السُّنن الكُبرى» للبَيْهقي، وليَحْرص عليه، فلم يُصنَّف مثله.
ثمَّ ما تمس الحاجة إليه.
ثمَّ من المَسَانيد: «مسند» أحمد ابن حنبل وغيره
ثمَّ من العِلَل: كتابهُ، وكِتَاب الدَّارقُطْني.
ومن الأسْمَاء: «تاريخ» البُخَاري، وابن أبي خَيْثمة، وكتاب ابن أبي حاتم.
ومن ضَبْط الأسْمَاء: كتاب ابن مَاكُولا، وليعتن بكُتب غريب الحديث وشُروحه،
وليَكُن الإتْقَان من شَأنهِ، وليُذَاكر بمحفُوظه، ويُبَاحث أهل المَعْرفة.
[وليَكُن الإتْقَان من شأنه] بأن يَكُون كُلَّما مرَّ به اسم مُشْكل، أو كلمة غريبة
بحثَ عنها، وأودعها قلبه
فصلٌ: وليَشْتغل بالتَّخريجِ والتَّصْنيف إذا تأهَّل لهُ، وليَعْتنِ بالتَّصنيف في
شَرْحهِ وبيان مُشْكلهِ، مُتقنًا واضحاً، فقَلَّما يمهرُ في عِلْمِ الحَديثِ مَنْ
لم يَفْعل هَذَا.
وللعُلمَاء في تَصْنيفِ الحديث طَريقَانِ:
أجْوَدهُمَا: تَصْنيفهُ على الأبْوَابِ، فيذكر في كلِّ بَابٍ ما حضرهُ فيه.
والثَّانية: تَصْنيفهُ عَلَى المَسَانيد.
فيَجْمع في ترجمةِ كُلِّ صحابي ما عندهُ من حَدِيثه، صَحيحهِ وضَعيفهِ، وعلى هَذَا
له أن يُرَتِّبه على الحُرُوف، أو عَلَى القَبَائل، فيبدأ ببني هاشم، ثمَّ
بالأقْربِ فالأقْربِ نَسَبًا إلى رَسُول صلى الله عليه وسلم، أو على السَّوابق،
فبالعَشرة، ثمَّ أهل بدر، ثمَّ الحُديبية، ثمَّ المُهَاجرين بينها وبين الفَتْح،
ثمَّ أصَاغر الصَّحَابة، ثمَّ النِّسَاء بادئاً بأمِّهَات المُؤمنين، ومن أحسنهُ
تَصْنيفهُ مُعلَّلاً، بأن يَجْمع في كلِّ حديث، أو بابٍ طُرقهُ، واختلاف رُواته.
ويَجْمعُون أيضًا حديث الشِّيوخ، كل شَيْخ على انْفَراده، كمَالك وسُفيان،
وغيرهمَا، والتَّراجم كمالك عن نافع عن ابن عُمر، وهِشَام، عن أبيه، عن عائشة،
والأبواب، كرؤية الله تَعَالَى، ورَفْع اليدين في الصَّلاة.
وليَحْذر إخْراج تَصْنيفه إلاَّ بعد تَهْذيبه وتَحْريره، وتَكْريرهِ النَّظر فيه،
وليَحْذر من تَصْنيف ما لَمْ يتأهَّل لهُ، ويَنْبغي أن يَتَحرَّى العِبَارات
الوَاضحة، والاصْطلاحَات المُسْتعملة.