صفحة جديدة 2
الثَّامنة: تُقبَل رِوَاية التَّائب من الفِسْق إلاَّ الكذب في حديثِ رَسُول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلا يُقبل أبدًا وإن حَسُنت طريقته، كذا قالهُ أحمد ابن حنبل،
والحُميدي شيخ البُخَاري، والصَّيرفي الشَّافعي..
قال الصَّيرفي: كل مَنْ أسْقَطنا خَبَرهُ بكذب لَمْ نَعُد لقَبُوله بتوبةٍ، ومَنْ
ضعَّفناهُ لَمْ نُقوِّه بعده، بخلاف الشَّهادة.
وقال السَّمعاني: مَنْ كذبَ في خَبَرٍ واحدٍ وجبَ إسْقَاط ما تقدَّم من حديثه.
قلتُ: هذا كُلهُ مُخَالف لِقَاعدة مَذْهبنا ومذهب غيرنا، ولا نُقوِّي الفَرْق بينهُ
وبين الشَّهادة.
التَّاسعة: إذَا رَوَى حديثًا، ثمَّ نفاهُ المُسمِعُ، فالمُخْتار أنَّه إن كانَ
جَازمًا بنَفْيهِ، بأن قال: ما رويتهُ ونحوهُ، وجب رده، ولا يَقْدح في باقي
رِوَايات الرَّاوي عنهُ.
التَّاسعة: إذا رَوَى] ثقة عن ثقة [حديثا، ثمَّ نفاه المسمع] لمَّا رُوجع فيه
[فالمُخْتار] عند المُتأخِّرين [أنَّه إن كان جَازمًا بنفيه، بأن قال: ما رويته] أو
كذب عليَّ [ونحوه، وجب رده] لتعارض قولهما، مع أنَّ الجاحد هو الأصل [ و] لكن [لا
يقدح] ذلك [في باقي روايات الرَّاوي عنه] ولا يثبت به جرحه، لأنَّه أيضًا مُكذب
لشيخه في نفيه لذلك، وليس قَبُول جرح كل منهما أَوْلَى من الآخر فتساقطا.
فإنْ قالَ: لا أعْرفهُ، أو لا أذْكُرهُ، أو نَحْوهُ، لم يقدح فيه، ومَنْ رَوَى
حديثًا ثمَّ نسيهُ جَاز العمل به على الصَّحيح، وهو قول الجمهُور من الطَّوائف،
خلافًا لبعض الحَنفيَّةِ
ومن شواهد القبول ما رواهُ الشَّافعي، عن سُفيان بن عُيينة، عن عَمرو بن دينار، عن
أبي معبد، عن ابن عبَّاس قال: كُنتُ أعرف انقضَاء صَلاة رَسُول الله صلى الله عليه
وسلم بالتَّكبير. قال عَمرو بن دينار: ثمَّ ذكرتهُ لأبي معبد بعد فقال: لم
أُحدِّثك. قال عَمرو: قد حَدَّثتنيه.
قال الشَّافعي: كأنَّه نسيهُ بعد ما حدَّثهُ إيَّاه.
[ومن رَوَى حديثًا، ثمَّ نسيه، جاز العمل به على الصَّحيح، وهو قول الجمهور من
الطَّوائف] أهل الحديث، والفقه، والكلام [خِلافًا لبعض الحَنفية] في قَوْلهم
بإسْقَاطه بذلك.
وبَنُوا عليه رد حديث رواه أبو داود والتِّرمذي وابن ماجه(757)، من رواية ربيعة بن
أبي عبد الرَّحمن، عن سُهيل بن أبي صَالح، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرة: أنَّ رَسُول
الله صلى الله عليه وسلم قَضَى باليمين مع الشَّاهد.
زادَ أبو داود في رِوَاية: أنَّ عبد العزيز الدَّرَاوردي قال: فذكرتُ ذلكَ لسُهيل،
فقال: أخبرني ربيعة، وهو عندي ثقة، أنِّي حَدَّثتهُ إيَّاه ولا أحفظهُ.
قال عبد العزيز: وقد كانَ سُهيل أصابتهُ عِلَّة أذهبت بعض عقله، ونَسِي بعض حديثه،
فكانَ سُهيل بعدُ يُحدِّثه، عن ربيعة، عنه، عن أبيه.
ولا يُخَالف هذا كراهةُ الشَّافعي وغيره الرِّواية عن الأحْيَاء.
العَاشرةُ: مَنْ أخذَ على التَّحْديث أجْرًا لا تُقبل رِوَايتهُ عندَ أحمد،
وإسْحَاق، وأبي حاتم، وتُقبل عندَ أبي نُعيم الفَضْل، وعليِّ بن عبد العزيز،
وآخرين، وأفْتَى الشَّيخ أبو إسْحَاق الشِّيرازي بجَوَازها، لِمَن امْتَنع عليه
الكَسْب لِعَياله بسبب التَّحْديث.
الحَادية عَشْرةُ: لا تُقبلُ رِوَاية مَنْ عُرِفُ بالتساهل في سَماعه أو إسْمَاعه،
كمَنْ لا يُبَالي بالنَّوم في السَّماع، أو يُحدِّث لا من أصْلٍ مُصحَّح، أو عُرف
بقبُول التَّلقين في الحديث، أو كَثْرة السَّهو في رِوَايته إذَا لم يُحدِّث من
أصْلٍ، أو كَثْرة الشَّواذ والمَنَاكير في حديثهِ، قال ابن المُبَارك، وأحمد،
والحُمَيدي، وغَيْرهم: مَنْ غلطَ في حديثٍ فَبُيِّن لهُ فأصرَّ على روايتهِ سَقَطت
رِوَاياتهُ، وهذا صحيحٌ إن ظهرَ أنَّه أصرَّ عِنَادًا أو نحوه.
قال العِرَاقي: وقيَّد ذلكَ بعض المُتأخِّرين بأن يَكُون المُبيِّن عَالمًا عند
المُبيَّن له، وإلاَّ فلا حرج إذَنْ.
الثَّانيةُ عَشْرةَ: أعرضَ النَّاسُ في هذه الأزْمَان، عن اعتبار مجمُوع الشُّروط
المَذْكُورة، لكون المَقْصُود صارَ إبْقَاء سِلْسلةِ الإسْنَاد المُخْتص بالأمَّةِ،
فليُعْتبر ما يليق بالمقصُود، وهو كَوْن الشَّيخ مُسْلمًا بالغًا عاقلاً، غير
مُتظاهر بفسقٍ، أو سخفٍ، ويُكتفي بضَبْطهِ بوجُود سَمَاعه مُثْبتًا بخطٍّ غير
مُتَّهم، وبروايته من أصْلٍ مُوافق لأصل شَيْخه، وقد قال نحو ما ذكرنَاهُ الحافظ
أبو بكر البَيْهقيُّ.
الثَّالثة عشرةَ: في ألفاظ الجَرْحِ والتَّعديل، وقد رتَّبها ابن أبي حاتم فأحسنَ،
فألفاظ التَّعديل مراتب:
أعْلاها:
ثقةٌ، أو مُتقنٌ، أو ثَبْتٌ، أو حُجَّةٌ، أو عدلٌ حافظٌ، أو ضابطٌ
الثَّانية:
صَدوقٌ، أو محلهُ الصِّدق، أو لا بأسَ به، قال ابن أبي حاتم: هو مِمَّن يُكتب
حديثه، ويُنظَر فيه، وهي المَنْزلة الثَّانية. وهو كما قال، لأنَّ هذه العِبَارة لا
تُشْعر بالضَّبطِ فيُعتبر حديثه على ما تقدَّم.
وعن يحيى بن مَعِين: إذا قُلتُ: (لا بأس به) فهو ثقةٌ، ولا يُقاومُ قوله عن نفسه
نَقْلُ ابن أبي حاتم عن أهل الفنِّ.
الثَّالثة: شيخٌ، فيكتب ويُنظر.
وزاد العِرَاقي في هذه المَرْتبة مع قولهم: محله الصِّدق: إلى الصِّدق ما هو، شيخ
وسط، مُكرَّر، جيد الحديث، حسن الحديث.
وزاد شيخُ الإسلام: صدوقٌ سيء الحفظ، صدوقٌ يهم، صدوق له أوهام، صدوقٌ يُخطىء،
صُدوق تغيَّر بآخره
الرَّابعة: صالحُ الحديث، يُكتَب للاعتبار.
[الرَّابعة] وهي سَادسة بحسب ما ذكرنا: [صالح الحديث] فإنَّه [يُكتب] حديثه
[للاعتبار] ويُنظر فيه.
وزاد العِرَاقي فيها: صدوقٌ إن شاء الله، أرجو أن لا بأس به، صُويلح.
وزاد شيخ الإسْلام مَقْبولٌ.
وأمَّا ألفاظُ الجَرْح فمراتب، فإذَا قالوا: (ليِّنُ الحديث) كُتبَ حديثهُ، ويُنظر
اعْتبارًا، وقال الدَّارقُطْني: إذا قُلتُ: ليِّنُ الحديث، لم يَكُن سَاقطًا، ولكن
مَجْرُوحًا بشيء لا يُسْقط عن العَدَالة..
ومن هذه المَرْتبة ما ذكرهُ العِرَاقي: فيه لين، فيه مَقَال، ضُعِّف، تعرف وتُنكر،
ليسَ بذاكَ، ليسَ بالمتين، ليس بحجَّة، ليس بعمدة، ليس بِمَرْضِيّ، للضعَّف ما هو،
فيه خُلْف، تكلَّموا فيه، مَطْعُون فيه، سيء الحفظ.
وقولهم: (ليسَ بقويٍّ) يُكتَب حديثهُ للاعتبار، وهو دونَ (ليِّن).
وإذا قالُوا: (ضعيفُ الحديث)، فدونَ (ليسَ بقويٍّ)، ولا يُطْرح، بل يُعْتبر بِهِ،
ومن هذه المَرْتبة فيما ذكرهُ العِرَاقي: ضعيفٌ، فقط، مُنْكر الحديث، حديثه مُنْكر،
واه، ضعَّفُوه
فالمَرْتبة الَّتي قبل، وهي الرَّابعة: رُدَّ حديثه، ردُّوا حديثه، مردود الحديث،
ضعيفٌ جدًّا، واهٍ بمرَّة، طرحُوا حديثه، مُطّرح، مُطّرح الحديث، ارم به، ليس بشيء،
لا يُسَاوي شيئاً
وإذا قالُوا: مَتْروك الحديث، أو وَاهيهِ، أو كذَّاب، فهو سَاقطٌ لا يُكتب حديثهُ.
ويليها: مَتْروك الحديث، متروكٌ، تركُوه، ذاهبٌ، ذاهب الحديث، ساقطٌ، هالكٌ، فيه
نظر، سَكُتوا عنه، لا يُعتبر به، لا يُعتبر بحديثه، ليسَ بالثِّقة، ليسَ بثقةٍ، غير
ثقة ولا مأمون، مُتَّهم بالكذب، أو بالوضع.
ويليها: كذَّاب، يكذب، دجَّال، وضَّاع، يضع، وضع حديثاً
ومن ألفَاظِهم: فلانٌ رَوَى عنهُ النَّاس، وَسطٌ، مُقارِب الحديث، مُضْطربٌ، لا
يُحتجُّ به، مَجْهولٌ، لا شيء، ليسَ بذلكَ، ليسَ بذاكَ القَوِّي؛ فيه أو في حديثه
ضَعْفٌ، ما أعلمُ به بأسًا، ويُستدلُّ على مَعَانيها بما تقدَّم
[ما أعلم به بأسًا] هذه أيضًا منها، أو من آخر مراتب التَّعديل، كأرجُو أن لا بأس
به.
النَّوع الرَّابع والعِشْرون: كَيْفيةُ سَمَاع الحديث وتَحَمُّلهِ وصِفةُ ضَبْطهِ
تُقبَل رِوَاية المُسْلم البَالغ ما تحمَّلهُ قبلهُمَا، ومَنَعَ الثَّاني قَوْمٌ
فأخطؤوا.
ومن أمْثلة ما تحمَّل في حال الكُفْر: حديث جُبير بن مُطْعم المُتَّفق عليه: أنَّه
سَمِعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في
المَغْرب بالطُّور(780). وكان جَاء في فِدَاء أسْرَى بَدْر قبل أن يُسْلم، وفي
رِوَاية للبخاري(781): وذلكَ أوَّل ما وَقَرَ الإيمَانُ في قَلْبي
[تُقبل رِوَاية المُسْلم البالغ، ما تحمَّله قبلهما] في حال الكُفر والصِّبا.
[ومنع الثَّاني] أي قَبُول رِوَاية ما تحمَّله في الصِّبا [قومٌ فأخطؤوا] لأنَّ
النَّاس قبلُوا رِوَاية أحْدَاث الصَّحَابة، كالحسن، والحُسَين، وعبد الله بن
الزُّبير، وابن عبَّاس، والنُّعمان بن بَشِير، والسَّائب بن يزيد، والمِسْور بن
مَخْرمة، وغيرهم، من غير فَرْق بين ما تحمَّلوه قبل البُلوغ وبعده.
وكذلك كان أهل العلم يُحضُرون الصِّبيان مَجَالس الحديث، ويعتدُّون بروايتهم بعد
البلوغ
قال جَماعةٌ من العُلماء: يُستحبٌّ أن يَبْتدىء بِسَماع الحديث بعد ثَلاثينَ سنة،
وقيل: بعد عِشْرينَ،
وقال سُفيان الثَّوري: كان الرَّجُل إذا أرادَ أن يَطْلُب الحديث تعبَّد قبلَ ذلكَ
عشرينَ سنةً.
وقال أبو عبد الله الزُّبيري من الشَّافعية: يُسْتحب كتب الحديث في العِشْرين،
لأنَّها مُجتمع العقل.
قال: وأُحب أن يُشْتغل دُونها بحفظ القرآن والفَرَائض، أي الفقه
والصَّواب في هذه الأزْمَان التَّبْكير به من حين يَصح سَمَاعهُ، وبِكَتْبهِ
وتَقْييدهِ حين يتأهَّل له، ويختلفُ باخْتلاف الأشْخَاص.
ونقلَ القَاضي عِيَاض رحمهُ الله: أنَّ أهْلَ الصَّنعة حدَّدُوا أوَّل زمن يصح فيه
السَّماع بخمسِ سِنينَ، وعلى هَذَا استقرَّ العملُ
[ونقل القَاضي عِيَاض: أنَّ أهل الصَّنعة حدَّدوا أوَّل زمن يصح فيه السَّماع]
للصغير [بخمس سنين] ونسبه غيره للجمهور.
وقال ابن الصَّلاح: [وعلى هذا استقرَّ العمل] بين أهل الحديث، فيكتبون لابن خمس
فصَاعدًا سمع وإن لم يبلغ خَمْسًا حضر أو أُحضر.
وحُجَّتهم في ذلك ما رواه البُخَاري وغيره من حديث محمُود بن الرَّبيع قال: عَقلتُ
من النَّبي صلى الله عليه وسلم مجَّة مَجَّها في وجهي من دَلْوٍ، وأنا ابن خمس
سنين. بوَّب عليه البخاري: مَتَى يصح سَمَاع الصَّغير؟
والصَّوَابُ: اعْتِبَارُ التَّمييزِ، فَإنْ فَهِمَ الخِطَابَ، وَرَدَّ الجَوَابَ
كانَ مُميَّزًا صَحِيحَ السَّماعِ، وإلاَّ فَلا، وَرُوِيَ نحو هذا عَنْ مُوسى بن
هارُونَ، وأحمَدَ ابن حَنْبل.
ومِمَّا يدل على أنَّ المرجع إلى التمييز ما ذكرهُ الخطيب(787) قال: سمعت القاضي
أبا محمَّد الأصبهاني يقول: حفظتُ القُران ولي خمس سنين، وأُحضرتُ عند أبي بكر
المُقرىء ولي أربع سنين، فأرادوا أن يُسْمِعوا لي فيما حضرت قراءته، فقال بعضهم:
إنَّه يصغر عن السَّماع، فقال لي ابن المقرىء: اقرأ سورة الكافرين، فقرأتها، فقال:
اقرأ سورة التكوير، فقرأتها، فقال لي غيره: اقرأ سورة المُرسلات، فقرأتها ولم أغلط
فيها، فقال ابن المُقرىء: أسْمِعوا لهُ والعُهدة عليَّ
بَيَانُ أقْسَامِ طُرُقِ تَحَمُّلِ الحَدِيثِ، وَمَجَامِعُهَا ثَمَانِيَةُ أقسَامٍ:
الأوَّلُ: سَمَاعُ لَفْظِ الشَّيخِ، وهو إملاءٌ وغيرُهُ، من حِفظٍ، وَمِنْ كِتَابٍ،
[الأوَّل: سماع لفظ الشَّيخ، وهو إملاء وغيره] أي تحديث من غير إملاء، وكل منهما
يكون [من حفظ] أي: للشيخ [ومن كتاب] له.
وهو أرفَعُ الأقسَام عند الجَمَاهِيرِ.
قال القَاضِي عِيَاض: لا خِلافَ أنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذَا للسَّامِعِ أَن يَقُولَ
في رِوَايته: حدَّثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعتُ فُلانًا، وقال لنَا، وذكَرَ لنَا.
قال الخَطِيبُ: أرفَعُهَا (سمعتُ)، ثمَّ (حَدَّثَنَا، وحَدَّثَنِي)، ثمَّ
(أخبرَنَا) وهو كَثير في الاستعمَالِ.
وكانَ هذا قَبلَ أن يَشِيعَ تَخْصِيصُ (أخبَرَنَا) بالقرَاءَةِ على الشَّيخ.
قال: ثمَّ (أنبأنَا، ونَبأنَا) وهو قَليلٌ في الاستِعمَالِ.
قال الشَّيخُ: (حدَّثنا وأخبرنَا) أرفَعُ من (سَمِعْتُ) من جِهَةٍ أخرَى؛ إذ ليسَ
في (سمعتُ) دَلالَة على أنَّ الشَّيخَ رَوَّاه إيَّاه، بِخلافِهمَا.
وَأمَّا (قال لنَا فُلان، أو ذكَرَ لنا) فَـ (كَحَدَّثَنَا)، غير أنَّهُ لائق
بِسَمَاعِ المُذَاكَرَةِ، وهو بهِ أشْبَهُ من (حدَّثنا).
وأوضَع العِبَارَاتِ: (قال) أو (ذكَرَ) من غير (لِي) أو (لنا)..
وهو أيضًا مَحْمُولٌ على السَّماعِ إذا عُرِفَ اللِّقَاءُ على ما تقدَّمَ في نوعِ
المُعضَلِ، لا سيما إن عُرِفَ أنَّهُ لا يَقُولُ (قال) إلاَّ فِيمَا سَمعَهُ
مِنْهُ، وَخَصَّ الخَطِيبُ حَمْلهُ عَلَى السَّمَاعِ به، والمَعْرُوفُ أنَّهُ ليسَ
بشَرطٍ.
القسمُ الثَّانِي: القِرَاءَةُ على الشَّيخ، ويُسَمِّيهَا أكثَرُ المُحَدِّثِينَ
عَرْضاً.
سَوَاء قَرَأتَ، أو غَيرُكَ وَأَنتَ تَسمَعُ، من كتَابٍ، أَو حِفْظٍ، حَفِظَ
الشَّيخُ أَم لا، إذَا أمسَكَ أصْلَه، هُوَ أو ثِقَةٌ.
وَهِيَ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ بِلا خِلافٍ في جَمِيع ذَلِكَ إلاَّ ما حُكِيَ عن بَعْض
مَنْ لا يُعْتَدُّ بِهِ.
واستدلَّ الحُميدي، ثمَّ البخاري على ذلك بحديث ضمام بن ثعلبة: لمَّا أتى النَّبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال له: إنِّي سائلكُ فمُشدِّد عليك، ثمَّ قال: أسألكَ
بربِّك ورب من قبلكَ، آلله أرسلكَ ... الحديث(804).
وَاختَلَفُوا في مُسَاوَاتِهَا للسَّمَاعِ من لَفظِ الشَّيخِ، ورُجْحَانِهِ
عَلَيْهَا، وَرُجْحَانِهَا عَلَيْهِ:
فَحُكِيَ الأوَّلُ عن مالكٍ، وأصحَابِهِ، وأشياخه، ومعظَم عُلمَاءِ الحِجَازِ،
والكُوفَةِ، والبُخَارِيِّ، وغَيْرِهِم.
وحكاهُ الرَّامهرمزي، عن على بن أبي طالب، وابن عبَّاس، ثمَّ روى عن عليِّ:
القِرَاءةُ على العالم بمنزلة السَّماع منهُ.
وعن ابن عبَّاس(805) قال: اقرؤوا عليَّ، فإنَّ قراءتكم عليَّ، كقراءتي عليكم. رواه
البيهقي في «المدخل».
والثَّانِي: عن جُمْهُورِ أهلِ المَشْرِقِ، وهو الصَّحِيحُ.
والثَّالِثُ: عن أبي حَنيفَةَ، وابن أبي ذئبٍ، وَغَيْرِهِمَا، وروَايةٌ عن مَالِكٍ.
والأحوَطُ في الرِّوَايَةِ بها: (قَرَأتُ على فُلانٍ)، أو (قُرِئ عليه وأنا أسمَعُ)
فأقرَّ بهِ، ثُمَّ عِبَارَاتُ السَّمَاع مُقَيَّدَةً: كَحَدَّثَنَا، أو أخبَرَنَا
قراءةً عليهِ، وأنشَدَنَا في الشِّعْرِ قراءةً عليهِ.
ومنعَ إطلاقَ (حدَّثَنَا، وأخبرَنَا) ابن المُبَارَكِ، ويَحيَى بن يَحْيىَ
التَّمِيميُّ، وأحمدُ ابن حَنْبَل، والنَّسَائِيُّ وغيرُهُم.
وجوَّزَهَا طَائِفَة، قيلَ: إنَّهُ مذهَبُ الزُّهْرِيِّ، ومالكٍ، وابن عُيَيْنَةَ،
ويحيىَ القَطَّانِ، وَالبُخَارِيِّ، وجمَاعَاتٍ من المُحَدِّثِينَ، ومُعظَمِ
الحِجَازِيِّينَ والكُوفِيِّينَ.
ومنهم مَنْ أجَازَ فيهَا (سمعتُ.
ومنعَتْ طَائِفَةٌ: (حدَّثَنَا)، وأجَازَتْ: (أخبرَنَا)؛ وهو مذهَبُ الشَّافعيِّ
وأصحَابِهِ، ومُسلم بن الحجَّاجِ، وجُمهُورِ أهلِ المَشْرِقِ.
وقيلَ: إنَّهُ مذهَبُ أكثَر المُحَدِّثِينَ، ورُويَ عن ابن جُرَيج، والأوزَاعِيِّ،
وابن وَهْبٍ، ورُوِيَ عن النَّسَائيِّ أيضًا، وصَارَ هو الشَّائعُ الغَالِبُ على
أهلِ الحديثِ