صفحة جديدة 1
قتل عثمان
أما الثوار فمنعوا الناس عن مخالطة عثمان ومكالمته، ولمّا خافوا أن يطول عليهم
الأمر فتأتيهم جنود الأمصار قصدوا الباب فقاتلهم جمْع من أولاد الصحابة، ولكن أنّى
يعملون وقد جاءهم ما لا قِبَل لهم به؟ وأشار عثمان على مَنْ قاتل أن يكف وهو في
حِلّ من نُصرته، فأحرق الثوار الباب ودخلوا عليه وهو يقرأ القرآن فلم يشغله ما رأى
عن تلاوته، ثم قال لمَنْ عنده بالدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليّ
عهداً فأنا صابر عليه ولم يحرقوا الباب إلا وهم يريدون أعظم منه، وأمرهم
بالانصراف..
ثم قال للحسن بن علي: إن أباك لفي شغل عظيم من أمرك فأقسمت عليك لما خرجت إليه..
فلم يسمعوا قوله وقاتلوا دونه، ولكن أنّى لهم ذلك وهم في قِلّة والعدو كثير؟!
فقُتِل بعضهم وجُرِح بعضهم ونجا آخرون، ثم تسور بعض الثوار دار بني حزم المجاورة
لدار عثمان ودخلوا عليه..
فقال قائل: اخلعها وندعك..
فقال عثمان: ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت،
ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست خالعاً
قميصاً كسانيه الله حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاوة...
فخرج الرجل ولم يصنع شيئاً..
ثم جاء آخر فقال له كما قال للأول.. فرجع..
فجاءهم عبد الله بن سلام وقال لهم: يا قوم! لا تسلوا سيف الله فيكم، فوالله إن
سللتموه لا تُغمدوه، ويلكم! إن سلطانكم اليوم يُقَوِّم بِالدِّرَّة، فإن قتلتموه لا
يُقَوِّم إلا بالسيف، ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بالملائكة فإن قتلتموه لتتركنها..
فشتموه!!
ثم دخل على عثمان الذين كُتِب عليهم الشقاوة فقتلوا هذه النفس الزكية ظُلماً
وعدواناً في الشهر الحرام والبلد الحرام لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس
وثلاثين..
وهذا هو التاريخ المشئوم الذي كان فيه فتْح الشر والشقاق بين المسلمين، وكان عمره
اثنتين وثمانين سنة..
وهذا أمر خولف فيه الشرع جهاراً في عاصمة الخلافة الإسلامية ومهبط الوحي النبوي،
شقوا عصا طاعة الإمام الذي انتُخب انتخاباً شرعياً وأقرّ عليه أكابر أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم الذين عهد إليهم بذلك عمر بن الخطاب، ولم يكن ثَمّ ما يوجب
الخروج عليه؛ إذ لا يوجبه إلا الكفر البواح كما هو نص حديث عُبادة بن الصامت
المتقدم، ولم يقل بذلك أحد منهم في حق عثمان ولا حكم به قاض مستنداً إلى كتاب أو
سُنة..
وكل ما نقموه عليه أمور لا حرج على الإمام في فعْلها؛ منها:
-
تولية أقاربه
وليس في هذا أدنى عيب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولّى علياً
وهو ابن عمه، وإذا كانت تولية القريب عَيْباً لنهى عنها عليه الصلاة والسلام ولم
يفعلها، ومع كل ذلك فالإسلام سوّى بين الناس، لا قريب عنده ولا بعيد، فالأمر موكول
لرأي الإمام الذي أُلقيت إليه مقاليد الأمة، فإن ولّى مَنْ حاد عن الدين شكونا إليه
فإن لم يقبل صبرنا كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن شق عصا الجماعة
من مصائب الأمم التي تُسرع إليها بالخراب..
وليس في الشرع مبيح خلع الإمام إلا كفره الصُّراح..
-
ومما نقموه على عثمان: إخراجه أبا ذر إلى الربذة،
وقد قدمنا لك سبب إخراجه لأن مذهبه الذي كان يدعو إليه ليس مقبولاً، ويمكن أن يحدث
منه قيام الفقراء ضد الأغنياء فيحدث ما لا يُحمد..
-
ومن ذلك زيادة النداء الثالث على الزوراء يوم الجمعة
وهذا إنما فعله لكثرة المسلمين وانتشارهم في أنحاء المدينة مما لم يكن في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم..
- ومن ذلك إتمامه الصلاة في منى وعرفة،
وكان الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده على القصر،
ولما سأله عبد الرحمن بن عوف عن ذلك أبدى سبباً واضحاً، فقال: بلغني أن بعض حاج
اليمن والجفاة جعل صلاة المقيم ركعتين من أجل صلاتي، وقد اتخذت بمكة أهلاً ولي
بالطائف مال وهو عذر له رضي الله عنه وإن لم يقبله عبد الرحمن..
-
ومن ذلك سقوط خاتم النبي
صلى الله عليه وسلم من يده في بئر أريس وعدم لُقِيّه..
- ومن ذلك تنازله لمروان بن الحكم عن ثمن خمس مغانم إفريقية
ولم يمنع الشرع الإمام أن ينفل مَنْ شاء من المسلمين ما لم ينفل غيره، فقد روى مسلم
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض مَنْ يبعث من السرايا لأنفسهم
خاصة سوى قَسْم عامة الجيش، وكان عليه الصلاة والسلام يُسهم أحياناً لبعض مَنْ لم
يحضر الغزوة كما أسهم لبعض المتخلفين عن بدر، ولِمَنْ قدِموا عليه يوم خيبر من
مهاجرة الحبشة والدوسيين..
فإذا نظرت- رعاك الله- لهذه الأمور التي نقموها على عثمان رضي الله عنه لم تر منها
شيئاً يشينه ولم يخرج في شيء منها عن حدود الشرع ولكن أولئك قوم بطروا
فطلبوا لأنفسهم ما ليس لهم فحق عليهم العذاب..
قال تعالى:
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[الأنفال:25]...
وقد عاقب سبحانه فأبلغ العقوبة..
نسأله سبحانه أن يرفع عنّا مقته وغضبه ويوفقنا لما فيه رضاه بمنّه وكرمه.