صفحة جديدة 1
فتْح قبرص
وفي السنة الثامنة والعشرين فتح معاوية جزيرة قبرص، وغزا معه كثير من كبار الصحابة
فيهم: أبو ذر، وعبادة بن الصامت ومعه زوجه أم حرام بنت مِلحان التي أخبرها رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنها في أول مَنْ يغزو في البحر..
«روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام
بنت ِملحان فَتُطْعمه، وكانت أم حرام تحت عُبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأطعمته ثم جلست تَفْلي رأسه فنام رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك..
قالت: فقلت: ما يُضْحكك يا رسول الله؟
قال: ناس من أمتي عُرِضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثَبَج هذا البحر، ملوكاً
على الأَسِرّة أو مثل الملوك على الأَسِرّة (يشك أيهما قال)..
قالت: قلتُ يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم..
فدعا لها..
ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك..
قالت: فقلتُ: ما يُضحكك يا رسول الله؟
قال: ناس من أُمتي عُرضوا عليّ غزاة في سبيل الله- كما قال في الأولى-..
قالت: يا رسول الله! ادعُ الله أن يجعلني منهم.
قال: أنتِ من الأولين.
وكان معهم أبو الدرداء وشدّاد بن أوس..
وكان معاوية كثيراً ما يتمنى غزو الروم في البحر زمن عمر بن الخطاب فلا يأذن له لأن
فيه غرراً بالمسلمين، ولمّا كان زمن عثمان أذِن وقال: لا تنتخب الناس ولا تُقْرِع
بينهم، فَمَنْ اختار الغزو طائعاً فاحمله وأَعِنْه، ففعل وسار من الشام إلى قبرص
وأَمَدّه والي مصر عبد الله بن سعد بنفسه فاجتمعا عليها، فصالحهم أهلها على سبعة
آلاف كل سنة يؤدون إلى الروم مثلها لا يمنعهم المسلمون من ذلك، وليس على المسلمين
منْعهم ممَّنْ أرادهم من ورائهم، وعليهم أن يُعْلِموا المسلمين بمسير عدوهم من
الروم إليهم، ويكون طريق المسلمين إلى العدو عليهم.
وفي هذه الغزوة ماتت أم حرام بنت مِلحان الأنصارية سابقة الذِّكْر؛ ألقتها بغلتها
بجزيرة قبرص، فماتت..
واستعمل معاوية على غزو البحر عبد الله بن قيس الجاسي فغزا خمسين غزوة من بين
صائفة وشاتية في البر والبحر، ولم يغرق أحد من جيشه ولم يُنْكب، ثم خرج مرة في قارب
طليعة فانتهى لمرفأ من الروم، فنذروا به فجاءوا فقتلوه.
وفي السنة الثلاثين شكا معاوية أبا ذر لعثمان، وكان مذهب أبي ذر أن المسلم لا
ينبغي له أن يكون في مُلكه أكثر من قُوت يوم أو ليلة أو شيء يُنفقه في سبيل الله أو
يُعِدّه للتكريم..
مستدلاً بقوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[التوبة:34]
﴿يَوْمَ
يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ
تَكْنِزُونَ﴾[التوبة:35]
ويميل إلى هذا المذهب مذهب الاشتراكيين الآن..
فكان أبو ذر رحمه الله يقوم بالشام ويقول: يا معشر الأغنياء! واسوا الفقراء، بَشِّر
الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من النار تُكوى بها
جباههم وجنوبهم وظهورهم، حتى أُوْلِع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء..
فشكا الأغنياء ما يلقونه إلى معاوية، فكتب في شأنه إلى عثمان..
فأرسل إليه: أن سَيِّرْه إليّ..
فلما قدم المدينة ورأى
المجالس في أصل سَلْع قال: بَشِّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مِذْكار..
ولمّا دخل على عثمان قال: مال أهل الشام يشكون ذَرَب لسانك؟
فأخبره..
فقال: يا أبا ذر! عليّ أن أقضي ما عليّ، وأن أدعوا الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد،
وما عليّ أن أُجبرهم على الزهد.
فقال أبو ذر: لا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف، ويحسنوا إلى الجيران
والإخوان، ويصلوا القرابات..
ثم طلب من عثمان أن يأذن له بالخروج من المدينة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمره بذلك إذا بلغ البناء سَلْعاً، فَسَيّره إلى الرَّبَذَة، فبنى بها مسجداً،
وأقطعه عثمان قطعة من الإبل وأجرى عليه العطاء فأقام أبو ذر منفرداً حتى أدركه
الأجل المحتوم.