صفحة جديدة 1
فأرسل سعيد إلى أهل القادسية والأيام، فقال: أنتم وجوه الناس، والوجه يُنبئ عن
الجسد، فأبلغونا حاجة ذوي الحاجة، وأَدْخَل معهم مَنْ يُحتاج إليه من اللواحق
والروادف، وجعل القُرّاء في سمره..
ففشت القالة في الكوفة بالقدْح في وُلاة عثمان، وفيه لتوليته إياهم..
فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فجمع الناس وأخبرهم بما كتب إليه فقالوا: : أصبت، لا
تُطْمِعهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور مَنْ ليس لها بأهل لم
يحتملها وأَفْسَدها.
فقال عثمان: يا أهل المدينة! استعدوا واستمسكوا فقد دبّت إليكم الفِتَن، وإني والله
لأتخلّصنّ الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم، حتى يأتي مع مَنْ شهد مع أهل العراق
سهمه فيُقيم معه في بلاده.
فقالوا: كيف تنقل إلينا سهمنا من الأرضين؟!
فقال: يبيعها مَنْ شاء بما كان له في الحجاز واليمن وغيرها من البلاد..
ففرحوا وفتح الله عليهم أمراً لم يكن في حسابهم، وفعلوا ذلك واشتراه رجال من كل
قبيلة وجاز لهم عن تراضٍ..
وفي عهد سعيد بن العاص فُتِحت طبرستان؛ سار إليها ومعه الحسن والحسين ابنا علي،
وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وابن الزبير، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم
من كبار الصحابة..؛ فقَاتَل أهلها ثم طلبوا الصلح فصالحهم، وكان ذلك في السنة
الثلاثين..
ثم سار سعيد وحذيفة ابن اليمان لإمداد عبد الرحمن بن ربيعة -الذي كان بالباب-
فلمّا بلغا أذربيجان سَيَّر سعيد حذيفة، وأقام هو رِدءاً له..، فسار حذيفة وغزا مع
عبد الرحمن ثم رجع إلى سعيد فَصَبَّحه بالكوفة..
وفي السنة الثانية والثلاثين غزا عبد الرحمن بن ربيعة الترك ثالث مرة، وأَوْغل في
سَيْره فتجمّع عليه التُّرك والخَزَر، وقاتلوه قتالاً شديداً حتى قُتِل،
فتفرق جيشه فِرقتين:
فرقة
سارت نحو الباب، فالتقت بِسَلْمان بن ربيعة الباهلي أخي عبد الرحمن الذي سَيَّره
سعيد مَدداً لأخيه فنجوا معه..
وفرقة
سارت نحو جيلان وجُرْجان فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة الدوسي..
واستعمل سعيد مكان عبد الرحمن أخاه سلمان على غزو الباب.
واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان، وأَمَدَّهم أمير المؤمنين عثمان
بأهل الشام عليهم حبيب بن مَسلمة فتأمّر عليهم سلمان بن ربيعة، وامتنع حبيب أن يكون
تحت إمْرته..
حتى قال أهل الشام: ولقد هممنا أن نضرب سلْمان، فقال الكوفيون: إذاً نضرب حبيباً
ونحبسه، وإن أبيتم كثُرت القتلى فينا وفيكم..
وكان هذا أول شقاق حصل بين الكوفيين والشاميين، ودبّت البغضاء بينهم بسبب التنافس
في الرياسة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
وفي السنة الثالثة والثلاثين حصل بالكوفة ما يُنبئ بمصيرها من دونٍ إلى أدنى في
الشقاق والتنازع لأن نُزَّالها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلون..
وأهل السابقة والفضل من أهلها وَزَّعَهم سعيد وُلاة على كُوَر الكوفة من بلاد
فارس..
وكان يجلس إلى سعيد كثير من أهل الكوفة للسمر، فكانوا يتذاكرون وقائعهم وحوادثهم؛
وأدّى ذلك إلى مشاجرة بعضهم بعضاً واستخفوا بصاحب الشرطة لما نهاهم عن ذلك التنازُع
حتى أنهم ضربوه؛ فطردهم سعيد من السمر عنده..
فابتعدوا وأقاموا في مجالس لهم لا هَمَّ له إلا الوقيعة بسعيد ومَنْ ولّاه.
فكتب إلى أمير المؤمنين عثمان بخبرهم فكتب إليه أن يحمل رؤساءهم إلى معاوية
بالشام..
وكتب إلى معاوية: إن نفراً خُلِقوا للفتنة فأَقْم عليها وانْهَهَم، فإن آنست منهم
رُشداً فَاقْبَل، وإن أَعْيَوْك فارددهم عليّ..
فلمّا قدموا على معاوية أكرمهم وأحسن وِفادتهم وأجرى عليهم أرزاقهم كما كانوا
بالعراق، فلم تزدهم النعمة إلا بَطَراً، واستخفوا بمعاوية واعترضوا على ولايته..
فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معصوماً فولّاني، وأدخلني في
أمْره، ثم استُخْلِف أبو بكر فولّاني، ثم استُخْلِف عمر فولّاني، ثم استُخْلِف
عثمان فولّاني، ولم يُوَلّني أحد إلا وهو عني راضٍ..
وإنما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعمال أهل الجزاء من المؤمنين والغَنَاء،
وإن الله ذو سَطَوات ونَقَمات يمكر بمَنْ مَكَر به، فلا تَتَعَرَّضُنّ لأمر وأنتم
تعلمون من أنفسكم غير ما تُظْهِرون، فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويُبدي للناس
سرائركم..
ولمّا رآهم ممَّنْ ضلّوا على علم فلم تفدهم النصيحة كتب إلى عثمان بخبرهم فأرسل
إليه أن يُسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحِمص..
فلمّا وصلوا إليه دعاهم فقال: يا آلة الشيطان! لا مرحباً بكم ولا أهلاً، قد رجع
الشيطان محسوراً، أأنتم بعد في نشاط، خسر والله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم..
يا معشر مَنْ لا أدري أعرب هم أم عجم! لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية،
أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن مَنْ عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ عين الردة..
والله يا صعصعة لئن بلغني أن أحداً ممَّنْ معي دقّ عُنقك ثم غمصك لأطِيرن بكم
طَيْرَة بعيدة المَهْوى ..
فأقامهم شهراً كلما رَكِب أمشاهم خَلفَه، حتى قالوا: نتوب إلى الله أَقِلْنا أقالك
الله..
فما زالوا به حتى قال: تاب الله عليكم..
ثم إن سعيد بن العاص- أمير الكوفة- رحل إلى أمير المؤمنين في أمور تخصُّ ولايته،
واستخلف على عمله عمرو بن حُرَيْث، فقام جماعة- من أهل الكوفة كَرِهوا ولاية سعيد-
واتفقوا على التوجه إلى عثمان واستعفائه منه، وكاتبوا مَنْ عند عبد الرحمن بن خالد
فساروا إليهم، وخرج الجميع لذلك، فقابلهم سعيد في الطريق راجعاً فأخبروه خبره،
فقال: كان يكفيكم أن تُرسلوا لعثمان رجلاً وإليّ رجلاً، ثم رجع إلى عثمان وأخبره
بذلك، وقال: إنهم يريدون البدل بي ويحبون أبا موسى..
فولّاه عثمان عليهم وكتب إليهم:
(أمّا بعد.. فقد أَمَّرْت عليكم مَنْ اخترتُم وأعفيتكم من سعيد، ووالله لأُقرضنّكم
عِرضي ولأبذلَنّ لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يُعصَى
فيه الله إلا استعفيتم منه، أَنْزِل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على الله
حُجة، ولنصبرنّ كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون)..
ثم جاء أبو موسى ودخل الكوفة وخطب أهلها وأمرهم بلزوم الجماعة..
ولم يزل والياً عليها حتى مات عثمان رضي الله عنه.