صفحة جديدة 1
وقعة نهاوند
أما ملك الفرس فإنه لما اجتمعت له الجموع بنهاوند (من بلاد الجبل جنوبي همذان) سار
إليهم من مرو، وقام بمساعدته الملوك بين الباب والسند وخراسان وحلوان (هذه حدود
المملكة الفارسية من الشمال والجنوب والشرق والغرب)، فكتب سعد إلى عمر بالخبر..
وفي هذا الوقت اشتكى سعداً جماعة من أهل الكوفة واتهموه بأنه لا يعدل فقال عمر:
والله لا يمنعني ما نزل بالمسلمين عن النظر في شكواهم؛ واستقدم سعداً فخلّف على
عمله عبد الله بن عبد الله بن عِتبان، وتوجّه إلى المدينة، وحقق عمر ما نُسِبَ إلى
سعد بواسطة محمد بن مسلمة الذي كان يقتص آثار مَنْ شُكِي من العمال فوجده بريئاً،
ولكن عمر كان يحب ألا يكون بين الرئيس والمرؤوس بغضاء لأن ذلك يؤدي إلى الفشل
والخيبة؛ فعزله وولّى على الكوفة النعمان بن مُقرِّن المزني، وكان قد اقتحم
جُنْدَيْسابور والسوس في جمْع من أهل الكوفة فأرسل إليه عمر عهد الولاية وهذا نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم) من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مُقرّن
سلام عليك: فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو..
أما بعد..
فإنه بلغني أن جموعاً من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك
كتابي هذا فَسِرْ بأمر الله وبعون الله وبنصْر الله بمَنْ معك من المسلمين، ولا
تُواطئهم وعْراً فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتُكَفِّرهم، ولا تُدْخِلهم غيْضة فإن
رجلاً من المسلمين أحب إليّ من مائة ألف دينار.. والسلام عليك.. (من تاريخ الطبري).
وأَمَرَه بالمسير إلى ماه لتجتمع عليه الجيوش هناك، ثم يسير بهم إلى نهاوند..
وكتب إلى عبد الله بن عبد الله- خليفة سعد على الكوفة- يأمره باستنفار الناس للتوجه
إلى النعمان..
وأرسل إلى جند الأهواز يأمرهم بالمُقام به ليكونوا حائلاً بين أهل إقليم فارس وبين
المجتمعين بنهاوند..
فلمّا اجتمعت الجيوش عند النعمان أرسل عمرو بن ثني وعمرو بن مَعْدِيكَرِب وطليحة بن
خويلد يكتشفون الطريق بين ماه ونهاوند..
فأما عمرو بن ثنْي فرجع من ليلته..
فقيل له: ما أرجعك؟
فقال: لم أكن بأرض العجم، وقتلت أرض جاهلها وقتل أرض عالمها..
وأما عمرو بن معديكرب فرجع صبيحة اليوم الثاني، فسُئِل عمّا رآه؟ فقال: سِرْنا
يوماً وليلة فلم نرَ شيئاً.
وأما طُليحة فلم يزل سائراً حتى رأى جيش الفرس وعرفه، فرجع وأخبرهم أن ليس بينهم
وبين نهاوند شيء يكرهونه..
فسار النعمان بالجيش وعلى مُقدَّمته أخوه نعيم بن مقِّن، وعلى مُجَنِّبَتَيْه أخوه
سويد بن مقرّن وحذيفة بن اليمان، وعلى الْمُجَرَّدَة القعقاع، وعلى الساقة مجاشع بن
مسعود، وجاءهم مَدَد من المدينة عليهم المغيرة بن شعبة..
فلمّا وصلوا نهاوند كبّر النعمان فكبّر الجند، ثم حَطّوا الأثقال، وضرب فسطاط
النعمان أكابر الكوفة (حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن
الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وجرير بن عبد الله، والأشعث بن قيس، وغيرهم)؛ فلم يُرَ
بنّاء فسطاط بالعرب كهؤلاء..
ثم أنشب المسلمون القتال، فقاتَلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس.
وفي يوم الجمعة انحجز الفرس في خنادقهم، فخاف المسلمون أن يطول عليهم الانتظار
فتشاوروا فيما يفعلون، ثم أقروا على أن يأمروا القعقاع بإنشاب القتال، فإذا قاتله
الفرس أظهر الهزيمة أمامهم، فإذا تبعوه وصاروا بين المسلمين قاتلوهم ويقضي الله ما
يشاء..
فأمر النعمان القعقاع أن يُنشب القتال ففعل، فخرج الفرس من خنادقهم، فأظهر القعقاع
الهزيمة أمامهم، فتبعوه فرحين لأنهم لم يروا مثل ذلك من المسلمين قبل الآن، ولم
يزالوا حتى قاربوا الجيش، فأمر النعمان جُنده ألا يحاربوا حتى يأذن لهم، وانتظر
الساعة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يقاتل فيها إذا زالت الشمس،
فلما حانت حمل وكبّر فتبعه المسلمون وقال: إن قُتِلت فالأمير بعدي حذيفة..
وقاتل المسلمون والفرس قتالاً لم يروا مثله ولا يوم القادسية..
وفي أثناء القتال استُشهد النعمان فسجّاه أخوه نُعيم وكتم موته عن الجند لئلا
يهنوا، وأخذ الراية حذيفة واستمر القتال إلى آخر النهار، ولما أظلم الليل انهزم
الفرس وعُمِّي عليهم الطريق فتركوه، وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا يعبدونه فوقع فيه
كثير منهم، ولم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان من بين الصرعى فذهب شمالاً نحو
همذان فتبعته فصيلة من الجيش وقتلوه بثَنِيّة همذان، وفتحوا همذان صُلحاً..
ولما بلغ الماهين هذا الخبر بادروا إلى طلب الصُّلح فأُجيبوا..
وهذا نص كتاب عهدهم عن الطبري:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(هذا ما أعطى حذيفة بن اليمان أهل ماه بهراذان.. أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم
وأراضيهم، لا يُغَيَّرون عن ملةٍ ولا يُحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم الْمَنَعة ما
أدُّوا الجزية- في كل سنة إلى مَنْ وَلِيَهم- على كل حالم في ماله ونفسه على قدر
طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل وأصلحوا الطرق وَقَرَوا جنود المسلمين ممَّنْ مَرَّ
بهم فأوى إليهم يوماً وليلة، ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدّلوا فذمتنا منهم بريئة)..
شهد القعقاع بن عمرو ونعيم بن مقرّن وسويد بن مقرن، وكُتب في المحرم سنة 19 (تسع
عشر).
ثم عادت السرية، وجمع المسلمون من الغنائم والأسلاب شيئاً كثيراً وكان الذي يحسب
لهم ويكتب السائب بن الأقرع، فأرسله حذيفة بالخُمس والبشارة، فلمّا قارب المدينة
وجد عمر خارجاً يتنسّم الأخبار لأنه قدّر الواقعة قبلها فبات يتململ، فلما رأى
السائب قال: ما وراءك؟
قال: خيراً يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك وأعظم الفتح واستشهد النعمان بن مقرن.
قال عمر: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون)، ثم بكى وَنَشَجَ حتى بانت فروع كتفيه فوق
كَتَدِه..
فلما رأى السائب ذلك قال: يا أمير المؤمنين! ما أُصيب بعده رجل يُعرَف وجهه.
فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين، ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم
وأنسابهم، وما يصنع أولئك بمعرفة عمر؟؟
وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف..
وسمى المسلمون فتح نهاوند فتح الفتوح لأنه لم يقم للفرس بعده قائمة..
ومما يستحق الذِّكْر: أن المسلمين عثروا في غنائم نهاوند على سِفطين مملوءين جوهراً
نفيساً من ذخائر كسرى، فأرسلهما حذيفة أمير الجيش إلى عمر مع السائب فلما أوصلهما
له قال: ضعهما في بيت المال والحق بجندك.. فركب راحلته ورجع، فأرسل عمر وراءه
رسولاً يخبّ السير في أثره حتى لحقه بالكوفة فأرجعه..
فلمّا رآه عمر قال: مالي وللسائب ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت
الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان ناراً يتوعدونني بالكي إن لم أقسمهما، فخذهما
عني وبعهما في أرزاق المسلمين، فبيعا بسوق الكوفة..
فرضي الله عنك يا عمر لقد سِرْت بسيرة نبيك فعززت وأعززت الإسلام والمسلمين..
اللهم ألهمنا الاتباع واكفنا شر الابتداع، ثم رجع حذيفة بجيشه بعد وقعة نهاوند
فائزاً منصوراً.
فتْح همذان
وبينما هو راجع بَلَغَه أن أهل همذان انتقضوا بعد الصلح، فابلغ الخبر عمرَ فأَمَرَه
أن يُسَيِّر إليها نعيم بن مقرِّن، فرجع إليها من الطريق على تعبيةٍ، واستولى على
بلادها جميعاً وحاصرها هي..
فطلب أهلها الصلح فصولحوا على الجزية..
ثم توجّه إلى واج روذ؛ حيث تجمّع الديلم وأهل أذربيجان وأهل الري فقاتلهم نعيم
قتالاً شديداً حتى هزمهم وأرسل إلى عمر بالخبر فأمَرَه بقصْد الري (بلد قرب طهران
في جنوبها الشرقي)..
فسار حتى قَدِمها فخرج إليه رئيس جُندها أبو الفَرَخان طالباً (الصلح)
ومُخالفاً لِمَلِكِها..
فاستمد الملك مَنْ جاوره فأمدّوه، والتقى معهم نعيم في سفح جبل الري قريباً من
المدينة وقاتلهم قتالاً شديداً..
ولمّا رأى (أبو) الفرخان أن الأمر سيطول طلب من نعيم أن يعطيه فصيلة من
الجيش يدخل بها المدينة من حيث لا يشعر الفرس فسَيّر معه جماعة دخل بهم المدينة كما
قال، أما نعيم فبيّت القوم فقاتلوه ولكنهم لما سمعوا التكبير من ورائهم انهزموا شر
هزيمة..
وأفاء الله على المسلمين في الري نحواً مما حازوه في المدائن، وجعل نعيم أبا
الفرخان والياً على المدينة، وكتب إلى عمر بالفتح.. فأرسل إليه: أن سَيِّر أخاك
سويداً إلى قومس (صُقْع بين خراسان وبلاد الجبل)..
فسَيَّره إليها فلم يقف في وجهه أحد فأخذها سِلماً، وعسكر بها، ثم كتب إليه أهلها
في الرجوع إلى بلادهم ودفْع الجزية فأجابهم وكتب لهم كتاباً هذا نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
هذا ما أعطى سويد بن مقرن أهل قومس وَمَنْ حَشَوا مِنْ الأمان على أنفسهم ومللهم
وأموالهم على أن يؤدوا الجزية على كل حالم بقدر طاقته، وعلى أن يدلوا، وعليهم نُزُل
مَنْ نَزَلَ بهم من المسلمين يوماً وليلة من أوسط طعامهم، وإن بدّلوا واستخفوا
بعهدهم فالذمة منهم بريئة..
وكتب وشهد..
وسار إلى جُرْجان (بلد شمالي بلاد الفرس) وعسكر قريباً منها، فراسله ملكها على
الصلح ودَفْع الجزية فأجابه فخرج إليه الملك وتلقاه خارج المدينة، ثم دخل معه وعسكر
بها وجبى الخراج..
فتْح طبرستان
وفيها راسله صاحب طبرستان (إقليم في الشمال) في الصلح على أن يتوادعا ويجعل له
شيئاً على غير نصر ولا معونة على أحد فأجابه وكتب له كتاباً هذا نَصّه:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
هذا كتاب من سويد بن مقرن للفرخان أصبهذ خراسان على طبرستان وجيلان من أهل العدو..
إنك آمن بأمان الله عز وجل على أن تَكُفّ بصوتك وأهل حواشي أرضك، ولا تؤوي لنا
بُغْيَةً، وتتقي مَنْ وَلِىَ فَرْج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك، ولا
يُدْخَل عليك إلا بإذنك..
سبيلنا عليكم بالإذن آمنة وكذلك سبيلكم، ولا تؤون لنا بُغْيةً، ولا تُسِلّون لنا
إلى عدو، ولا تغلون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم)
شهد سواد بن قُطبة التميمي، وهند بن عمرو المُرادي، وسِماك ابن مَخرمة الأسدي،
وسِماك بن عبيد الله العبسي، وعتيبة بن النهاس الكبري.
ذِكْر فتْح أصبهان
ثم أرسل عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن (عبد)
عُبيد
الله بن عِتبان- أمير البصرة قبل المغيرة- يأمره أن يسير إلى أصبهان، وأمر أبا موسى
الأشعري أن يكون مَدداً له فسار عبد الله حتى وصل أصبهان (في العرق العجمي)، وعلى
جندها الاسبيذان، فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً انتهى بهزيمة المشركين، فطلبوا
الصلح فصولحوا؛ ثم سار عبد الله إلى مدينة جي- وهي قاعدة أصبهان- فحاصرها، ثم صالحه
الفاذوستان- وهو أمير أصبهان- عليها، مُشترِطاً الجزية على مَنْ أقام وأقام على
ماله، وأن يُجرَى مَنْ أخذت أرضه عنوةً مُجراه، ومَنْ أَبَى وذهب كانت لكم أرضه.