صفحة جديدة 1
فتح الأهواز
قَدّمنا أن الهرمزان لما انهزم من
القادسية قصد الأهواز، ومَلَكَ خوزستان (من كُوَر الأهواز وهي الآن اسم لإقليم في
بلاد الفرس قاعدته تُسْتر)..
وكان يُغِير على أهل ميسان (كورة
بين البصرة وواسط)، يُؤتَى إليها من مناذر ونهر تيرى (من ثغور الأهواز)..
فأرسل عتبة بن غزوان إلى عمر
يُخبره بخبر الهرمزان..
فأرسل عمر إلى سعد أمير الكوفة أن
يُمِد عتبة..
فأمدّه بنعيم بن مقرِّن ونعيم بن
مسعود، وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان حتى يكونا بين البصرة وثغور الأهواز..
وأرسل عتبة بن سُلمى بن القيْن،
وحرملة بن مُرَيْط فنزلا على ثغور البصرة بميسان..
ودعوا مَنْ يُقيم هنالك من العرب
ليكونوا مع المسلمين على قتال الفرس فأجابهم بنو العم وكانوا ينزلون قبل الإسلام
بخوزستان فاتّعد الأميران مع رئيسين من هؤلاء العرب على أن يثور أحدهما بمناذر
والآخر بنهر تيرى في يوم عيّناه لهما..
فلمّا كان هذا اليوم أنشب جيشا
البصرة والكوفة القتال مع الهرمزان، وبينما هو يقاتل إذ جاءه الخبر بأخْذ مناذر
ونهر تيرى فانكسرت نفسه وانهزم جيشه، فاتّبعهم المسلمون إلى شاطئ دُجيل (شعب من
دجلة بالأهواز)..
وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز،
وطلب الصلح فصُولح على ما دون مناذر ونهر تيرى المأخوذين عنوة، وأُقيمَت فيهما
حامية..
وكان فتْح الأهواز في السنة
السابعة عشرة..
ورجع باقي المسلمين إلى البصرة
ومعهم بنو العم الذين هُدوا للإسلام..
فأرسل عتبة وفداً منهم إلى عمر
وفيهم الأحنف بن قيس، فلما وصلوا إليه طلب من كل منهم أن يرفع إليه حاجته، فطلب كل
واحد منهم خاصة نفسه إلا الأحنف بن قيس فإنه قال: (يا أمير المؤمنين! لقد يعزب عنك
ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه
بأعين أهل الخير ويسمع بآذانهم).
ثم ذكر حال البصرة وحال الكوفة
وبين ما امتاز به الكوفيون عن إخوانهم البصريين وقال في آخر كلامه: (وقد وسع الله
علينا وزادنا في أرضنا فوسع علينا يا أمير المؤمنين وزدنا طبقة تطوف علينا ونعيش
بها)..
فلما سمع قوله أحسن إليهم وأقطعهم
مما كان لأهل كسرى..
ثم قال: إن هذا الفتى سيد قومه،
وكتب إلى عُتبة- أمير البصرة- أن يسمع منه ويرجع إلى رأيه.
انتفاض الهرمزان
ثم إن الهرمزان انتقض بعد الصلح
لخلاف حصل بينه وبين حامية مناذر ونهر تيرى في تحديد التخوم، واستعان بالأكراد..
فكتب عُتبة إلى عمر يُخبره بذلك،
فأجابه: بأن يقصده وأمدّ المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي، وأمَّرَه على القتال وعلى
ما غَلَب عليه..
فسار وسار معه جيش البصرة حتى أتى
جسر سوق الأهواز وعبَره، وقاتل الهرمزان وهزمه..
وبعث في أثره جَزْء بن معاوية ففتح
سوق الأهواز، وأعجزه الهرمزان، فمال إلى مدينة سُرَّق (قاعدة كورة بالأهواز)
وفَتَحَها، ودعا مَنْ هرب للرجوع ودَفْع الجزية فأجابوا، وأقام هناك والياً فعمّر
البلاد وشق الأنهار وأحيا الموات..
ثم إن الهرمزان راسل حرقوصاً في
طلب الصلح، فأجابه بعد استئذان عمر، وأقام الهرمزان، والمسلمون يمنعونه من
الأكراد..
ونزل حرقوص جبل الأهواز فشقّ ذلك
على المسلمين وأهل الذمة، فكتب إليه عمر: «أن انزل السهل وألا تشقّ على مسلم ولا
مُعاهَد، وأن لا تُدركك فترة ولا عجلة فتُكَدِّر دُنياك وتُذْهِبَ آخرتك»..
وفي هذا الوقت ولّى عمر البصرة
المغيرة بن شعبة بعد وفاة أميرها عتبة بن غزوان رضي الله عنه، ثم عزله وولّى عليها
أبو موسى الأشعري، وأعانه بتسعة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيهم: أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام بن عامر..
وفي عهد أبي موسى كان يزدجرد ملك
الفرس بمرو يدعو الفرس للأخذ بناصره واسترداد مُلكهم..؛ فتحركوا وكاتبوا أهل
الأهواز الذين صالح عليهم الهرمزان..
فبلغ ذلك وُلاة الأهواز فأرسلوا
إلى عمر بالخبر، فكتب إلى سعد أمير الكوفة: أن يُسَيِّر إلى الأهواز جُنداً كثيفاً
مع النعمان بن مقرِّن، وأرسل إلى أبي موسى أمير البصرة أن يُسَيِّر إليها جُنداً
كثيفاً مع سعد بن عدي، وأن يكون قائد الجيشين أبو سبرة بن أبي رهم..
فسار النعمان بن مقرّن مع جيشه حتى
وصل رامهرمز (بلد بخوزستان)، والهرمزان بها عاصٍ، فقاتله النعمان حتى هزمه فلحق
بتُستر (من مدن الأهواز قريبة من السوس) فمَلَكَ النعمان رامهرمز.
فتْح تُستر
ولمّا وصل جيش البصرة إلى الأهواز نزلوا سوقها وكانوا يريدون رامهرمز، فبلغهم خبر
الواقعة وأن الهرمزان لحق بتُستر فقصدوها، وكذلك النعمان وولاة الأهواز، ونزل
الجميع عليها والفرس مخندقون حولها، فأقام المسلمون على حصارها..
وممَّنْ أبلى فيه بلاءً حسناً البراء بن مالك، ومَجزأة بن ثور، وعِدّة من أهل
البصرة والكوفة..
ولمّا اشتد الحصار على أهل تُستر خرج منهم رجل فاستأمن المسلمين على أن يدلّهم على
مدخل يدخلون منه المدينة، فأمّنوه فدلّهم على مدخل الماء..
فانتدب قائد الجيش مَنْ يسير مع الرجل فأجابه عِدة من أهل البصرة والكوفة، ودخلوا
من هذا السَّرب والمسلمون ينتظرون تكبيرهم، فلما وصلوا المدينة كبّروا فكبّر
المسلمون وفُتِحت الأبواب، ومَنْ قاتل قُتِل، وتحصّن الهرمزان بقلعة المدينة
فأطافوا به، فطلب منهم النزول على حُكم عمر فقبلوا ذلك منه، وقُتِل في هذا الحصار
البراء بن مالك ومجزأة بن ثور.
فتح السوس
ثم سار الجيش حتى بلغ السوس (قاعدة كورة بالأهواز) وفتحها صلحاً ثم سير الأمير سرية
لفتح جُنْدِيسابور فصالح أهلها، وبعد تمام الفتْح سَيَّر أبو سَبْرة إلى عمر وفداً
فيهم الأحنف بن قيس وأنس بن مالك ومعهم الهرمزان.
وفود الهرمزان
فلما قدموا المدينة ألبسوا الهرمزان كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، وتاجه وكان
مكللاً بالياقوت وحليته ليراه عمر والمسلمون، ثم توجهوا إلى عمر في المسجد فوجدوه
نائماً والدِّرة في يده..
فقال الهرمزان: أين عمر؟
فقالوا: ها هو..
قال: فأين حرسه وحُجَّابه؟
قالوا: ليس له حارس ولا حاجب.
قال: ينبغي أن يكون نبياً!!
قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء..
فاستيقظ عمر وأُخْبِر بالهرمزان، فنظر إليه وقال: (الحمد لله الذي أذلّ بالإسلام
هذا وأشباهه) ثم أمر بنزْع ما عليه وأن يُلبَس ثوباً صفيقاً، ثم قال له عمر: كيف
رأيت عاقبة الغدر وعاقبة أمر الله؟
فقال: يا عمر! إنّا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلّى بيننا وبينكم فغلبناكم،
فلمّا كان الآن معكم غلبتمونا..
فقال له عمر: (إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا)..
ثم قال عمر: ما حُجتك وما عُذرك في انتقاضك مرة بعد أخرى؟
فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أُخبرك.
فقال: لا تخف ذلك..
واستسقى ماءً، فأُتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل
هذا، فأُتي به في إناء يرضاه، فقال: أخاف أن أُقتل قبل أن أشرب..
فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه..
فأكفأه..
فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش.
فقال: لا حاجة لي في الماء وإنما أردت أن أستأمن به.
فقال له عمر: إني قاتلك.
قال: قد أمّنتني.
فقال عمر: كذبت.
فقال أنس بن مالك: صدق يا أمير المؤمنين، قد أمّنته.
قال عمر: يا أنس! أنا أؤمن قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور؟! والله لتأتين بمخرج
أو لأعاقبنك.
قال: قلت: لا بأس عليك حتى تخبرني ولا بأس عليك حتى تشربه، وقال مَنْ حوله مثل
ذلك..
فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم، فأسلم الهرمزان وصار
من التابعين بإحسان ففرض له عمر العطاء على ألفين، وكان يترجم بينهما المغيرة بن
شعبة.
ثم قال عمر للوفد: لعل المسلمين يؤذون أهل الذمة فلذلك ينتقضون.
قالوا: ما نعلم إلا وفاء.
قال: فكيف هذا؟
فقال الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين! إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وإن ملك
فارس بين أظهرهم، ولا يزالون يقاتلوننا ما دام مَلِكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان
متفقان حتى يُخرِج أحدهما الآخر، وقد رأيت أنّا لم نأخذ شيئاً بعد شيء إلا
بانبعاثهم وغدرهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا
بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم فهناك ينقطع رجاؤهم.
فقال عمر: صدقتني والله، وصمم على اتباع مشورته.