صفحة جديدة 1
بدء أمر الروم
مملكة الروم هي المملكة الثانية
العظمى التي كانت تحد البلاد العربية من الشمال وأول ما كان بينها وبين المسلمين
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى الإسلام
(والكتاب وحديث أبي سفيان عنه مذكوران في كتابي نور اليقين صفحة 211 وما بعدها من
الطبعة الثانية) ثم كتب صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان
بالبلقاء من أرض الشام وعاهل قيصر على العرب يدعوه إلى الإسلام فأدركته العزة
بالإثم فأراد أن يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أمر من قيصر ينهاه عن
ذلك. وفي السنة الثامنة من الهجرة جهز عليه السلام جيشاً إلى الشام تحت إمرة زيد بن
حارثة وهي غزوة مؤتة فجمع لهم الروم جمعاً كثيراً مائة ألف أو يزيدون فاستشهد زيد
وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة واستلم سيف الله خالد إمرة الجيش فخلصه من
الهلاك، والكلام في هذه الغزوة مستوفى في «نور اليقين»؛ وفي السنة التاسعة تجهّز
رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم فبلغ تبوك وأتاه صاحب أيلة يوحنا بن رؤبة
وصاحب جرباء وأذرح وأعطوا الجزية، فلما بلغ هرقل ما فعله يوحنا أمر بقتله وصلبه عند
قريته..
وفي السنة التي توفي فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم جهز سرية تحت إمرة أسامة بن زيد بن حارثة لتتوجه إلى أُبنى
وقضاعة للقصاص من قَتَلَة أبيه، فتوفي عليه الصلاة والسلام ولم يخرج أسامة..
فلما استُخلِف أبو بكر جهّز
السرية، فسار أسامة حتى وصل أُبنى وأوقع بقبائل من قضاعة ثم رجع فائزاً.
فلما عقد أبو بكر الألوية في ذي
القصة عقد منها لواء لخالد بن سعيد بن العاص ووجّهه إلى مشارف الشام، ثم أمره أن
يكون ردءاً للمسلمين بتيماء لا يفارقها إلا بأمره، ولا يقاتل إلا مَنْ قاتله..
فبلغ خبره هرقل ملك الروم فجهّز
إليه جيشاً من العرب التابعين للروم من بهراء وسَلِيح وكلب ولخم وجذام وغسان، فسار
إليهم خالد بن سعيد فلقيهم على منازلهم فافترقوا، وأرسل هو لأبي بكر بالخبر فكتب
إليه يأمره بالإقدام، فتقدم ولقيه بطريق رومي اسمه باهان فهزمه خالد، وكتب إلى أبي
بكر يستمده، فعند ذلك اهتم رضي الله عنه بأمر الشام، وكان قد ورد إليه أوائل
مستنفري اليمن، وقدِم عِكرمة بن أبي جهل فيمَن معه من تهامة والبحرين، وأرسل إلى
عمرو بن العاص وكان والياً على صدقات سعد هذيم من قضاعة كان أبو بكر سيَّره إليها
يوم عقد الألوية في ذي القصة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده ولايتها..
فكتب إليه أبو بكر: (إني كنت
رددتك إلى العمل الذي ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ووعدك به أخرى إنجازاً
لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وَلِيتَهُ، وقد أحببت أن أفرغك لما هو
خير لك في الدنيا والآخرة إلا أن يكون الذي أنت فيه أحبَّ إليك)..
فكتب إليه عمرو: (إني سهم من سهام
الإسلام، وأنت بعد رسول الله الرامي بها والجامع لها؛ فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها
فارم به)..
فأمره فقدِم عليه، فجهّز أبو بكر
أربعة جيوش:
على أحدها عمرو بن العاص ووجّهه
إلى فلسطين (كورة بالشام في جنوبه)..
وعلى ثانيها شرحبيل بن حسنة، وكان
قدِم عليه من العراق ووجّهه إلى الأردن (كورة بالشام سُميت باسم نهر هناك يبتدئ من
بحيرة طبرية وينتهي بالحيرة الميتة)..
وعلى الثالث يزيد بن أبي سفيان
ووجّهه إلى البلقاء (بلد بالشام وأتبعه بأخيه معاوية..
وعلى الرابع أمين هذه الأمة أبو
عبيدة عامر بن الجراح ووجّهه إلى حمص..
فسارت الأمراء على بركة الله وكان
أبو بكر يودعهم ماشياً ويوصيهم بما فيه صلاح دنياهم وأخراهم.
ومما يؤثر عنه رضي الله عنه وصيته
العظيمة ليزيد وقد أحببت إيرادها برمتها لما فيها من النصائح التي يلزم كل أمير جيش
اتباعها..
وها هي: «إني قد وليتك لأبلوك
وأجرّبك وأخرجك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله
فإنه يرى من باطنك مثل ما يرى من ظاهرك وإن أَوْلى الناس بالله أشدهم تولياً له،
وأقرب الناس من الله أشدهم تقرباً إليه بعمله، وقد وليتك عمل خالد (هو ابن سعيد بن
العاص الذي كان أبو بكر سَيَّره إلى الشام أولاً)..
فإياك وعُبِّية الجاهلية فإن الله
يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قَدِمْتَ على جُنْدك فأَحْسِن صُحبتهم، وابدأهم بالخير
وعِدْهم إياه، وإذا وعظت فأَوْجِز فإن كثير الكلام يُنسي بعضه بعضاً، وأَصْلِح نفسك
يصلح لك الناس، وصلِّ الصلاة لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشُّع فيها، وإذا
قَدِم عليك رسل عدوك فأَكْرِمهم وأقلل لُبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون، ولا
تُريَّثْهم فيروا خللك ويعلموا عِلمك (عملك)، وأَنْزِلْهم في ثروة عسكرك، وامنع
مَنْ قِبَلَك من محادثتهم، وكُن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك كعلانيتك فيختلط
أمرك، وإذا استشرت فاصْدُق الحديث تصدق المشورة ولا تُخْزِن عن المشير خبرك فتُؤتَى
من قِبَلَك، وأسْمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عندك الأستار، وأَكْثِر
حرسك وبدّدهم في عسكرك، وأَكْثِر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمَنْ
وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأَعْقِب بينهم بالليل
والنهار، واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنها أيسرهما لقُربها من النهار،
ولا تخف من عقوبة المستحِق ولا تَلَجَّنَّ فيها ولا تُسْرِع إليها ولا تُخذلها
مُدْقِعاً، ولا تغْفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسَّ عليهم فتفضحهم، ولا تكشف
للناس عن أسرارهم، واكتَفِ بعلانيتهم، ولا تُجالِس العبّاثين، وجَالِس أهل الصدق
والوفاء، وأصْدُق اللقاء ولا تجبُن فيجبُن الناس، واجتنب الغلول فإنه يُقَرِّب
الفقر ويدفع النصر، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا
أنفسهم له»..
ولم تزل الجيوش سائرة حتى وصلت
الشام؛ فنزل عمرو بن العاص العربة من فلسطين، ونزل شرحبيل الأردن، ونزل يزيد
البلقاء، ونزل أبو عبيدة الجابية..
فلما بلغ ذلك هرقل ملك الروم قال
لقومه: أرى أن تصالحوا المسلمين، فوالله لأن تصالحوهم على نصف ما يحصل من الشام
ويبقى لكم نصفه مع بلاد الروم أحب إليكم من أن يغلبوكم على بلاد الشام ونصف بلاد
الروم.. فرفضوا رأيه، فسار حتى نزل حمص «مدينة شامية في الشرق من نهر العاصي وعلى
بعد قليل منه»، وأمَرَ بجمْع الجيوش فاجتمع مع الروم عدد عظيم، فوجّه لكل أمير
جيشاً يفوق عِدّة مَنْ معه فأشار عمرو بن العاص على الأمراء بالاجتماع فأرسلوا إلى
أبي بكر في ذلك فأشار عليهم بمثل رأي عمرو وقال: «إن مثلكم لا يُؤتى من قِلّة وإنما
تُؤتَون من الذنوب فاحترسوا منها» فاجتمعوا باليرموك..