صفحة جديدة 3
واسم المحبة فيه إطلاق وعموم فإن
المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده
المؤمنين وإن كان ذلك من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره
ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه
من العبادة والإنابة إليه والتبتل له ونحو ذلك فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله
سبحانه وتعالى.
ثم أنه كما بين أن محبته أصل الدين
فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها
فان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة
وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» فأخبر أن الجهاد ذروة
سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه..
وقد قال
تعالى:
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ﴾ والنصوص في فضائل الجهاد وأهله
كثيرة
وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد
والجهاد دليل المحبة الكاملة..
قال تعالى:
﴿قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ.... الآية﴾..
وقال تعال في صفة المحبين
المحبوبين:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾..
فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن
المحب يحب ما محبوبه ويبغض ما يبغض محبوبه ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه ويرضى
لرضاه ويغضب لغضبه ويأمر بما يأمر به وينهى عنه فهو موافق له في ذلك وهؤلاء هم
الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى بكر في طائفـة فيهـم صهيـب وبلال: «لعلك
أغضبتهم لإن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك» فقال لهم: يا إخوتي هل أغضبتكم؟ قالوا: لا
يغفر الله لك يا أبا بكر، وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا: ما أخذت السيوف
من عدو الله مأخذها فقال
لهم أبو بكر: أتقولون هذا لسيد
قريش وذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «ما تقدم لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضباً لله لكمال ما عندهم من
الموالاة لله
ورسوله والمعاداة لأعداء الله
ورسوله».
ولهذا قال النبي صلى الله عليه
وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه: «لا
يزال
عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به
وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها بي يسمع وبى يبصر وبي
يبطش وبى يمشي ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا
فاعله ترددي عن
قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت
وأنا أكره مساءته ولا بد له منه» فبين سبحانه أنه
يتردد لأن التردد تعارض إرادتين وهو سبحانه يحب ما يحب عبده ويكره ما
يكرهه وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال: «وأنا
أكره مساءته» وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت
فسمى ذلك تردداً ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك.
وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب
المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه، وقد
يقال له اتحاد نوعي وصفي وليس ذلك اتحاد الذاتين فان ذلك محال ممتنع والقائل به
كافر وهو قول النصارى والغالية من الرافضة والنساك كالحلاجية ونحوهم وهو الاتحاد
المقيد في شيء بعينه.
وأما الاتحاد المطلق الذي هو قول
أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود
المخلوق هو عين وجود الخالق فهذا تعطيل للصانع وجحود له وهو جامع لكل شرك فكما أن
الاتحاد نوعان فكذلك الحلول نوعان قوم يقولون بالحلول المقيد في بعض الأشخاص وقوم
يقولون بحلوله في كل شيء وهم الجهمية الذين يقولون أن ذات الله في كل مكان.
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل
الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه ويغيـب بمذكـوره عـن ذكره وبعروفة
عن معرفته وبموجوده عن وجوده حتـى لا يشهد إلا محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص
عقله وسكره أنه هو محبوبه كما قيل أن محبوباً وقع في اليم
فألقى المحب نفسه خلفه فقال أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك فقال غبت بك
عنى فظننت أنك
أنى فلا ريب أن هذا خطأ وضلال، لكن
إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورا
في زوال عقله فلا يكون مؤاخذا بما يصدر منه من الكلام في هذه الحال التي زال
فيها عقله بغير سبب محظور كما قيل
في عقلاء المجانين إنهم قوم آتاهم الله عقولاً وأحوالاً فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم
وأسقط ما فرض بما سلب، وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظوراً لم يكن
السكران معذوراً وإن كان لا يحكم بكفره في أصح القولين كما لا يقع طلاقة في أصح
القولين وإن كان النزاع في الحكم مشهورا وقد بسطنا الكلام في هذا وفيمن يسلم له
حاله ومن لا يسلم في قاعدة ذلك وبكل حال فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال
ناقص وإن كان صاحبه غير مكلف
ولهذا لم يرد مثل هذا عن الصحابة
الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الرسل وإن
كان لهؤلاء في صعق موسى نوع تعلق وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الإلهية على
بعض التابعين ومن بعدهم وإن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه
ومكروهه وولايته وعداوته فمن المعلوم أن من أحب
الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم..
كما
قال تعالى:
﴿إن اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾، والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل بل ذلك يغريه
بملازمة المحبة كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم
الذين لا يخافون
من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه
من جهاد أعدائه فإن الملام على ذلك كثير وأما الملام على فعل ما يكرهه الله أو ترك
ما أحبه فهو لوم بحق وليس من المحمود الصبر على هذا الملام بل الرجوع إلى الحق خير
من التمادي في الباطل وبهذا يحصل الفرق بين الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله
ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك وبين
الملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك.
فصل..
وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني
فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها فإن الراجي الطامع إنما يطمع
فيما يحبه لا فيما يبغضه والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب..
قال تعالى:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إن عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ
مَحْذُوراً﴾..
وقال تعالى:
﴿إن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾
ورحمته اسم جامع لكل خير، وعذابه اسم جامع لكل شر، ودار الرحمة الخالصة هي الجنة،
ودار العذاب الخالص هي النار، وأما الدنيا فدار امتزاج..
فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنـة
فالجنـة اسم جامع لكل نعيم وأعلاه النظر إلى وجه الله كما في صحيح مسلم عـن عبد
الرحمن
بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله
موعداً يريد لأن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ألم يثقل موازيننا ويدخلنا
الجنة وينجينا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون
إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة».
ومن هنا يتبين زوال الاشتباه في
قول من قال ما عبدتك شوقاً إلى جنتك ولا خوفاً من نارك وإنما عبدتك شوقاً إلى رؤيتك
فان هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة لا يدخل في مسماها إلا الأكل والشرب
واللباس والنكاح والسماح ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات كما يوافقه على ذلك من
ينكر رؤية الله من الجهمية أو من يقربها..
ويزعم أنه لا تمتع بنفس رؤية الله كما
يقولـه طائفـة مـن المتفقهة فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة لا يدخـل فيه
إلا التمتع بالمخلوقات ولهذا قال بعض من غلط من المشايخ لما سمع قوله منكم من يريد
الدنيا ومنكم من يريد الآخرة قال فأين من يريد الله وقال آخر في قوله تعالى:
﴿إن اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾
بأن لهم الجنة قال إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر إليه وكل هذا لظنهم
أن الجنة لا يدخل
فيها النظر، والتحقيق أن الجنة هي
الدار الجامعة لكل نعيم وأعلى ما فيها النظر إلى وجه الله وهو من النعيم الذي
ينالونه في الجنة كما أخبرت به النصوص وكذلك أهل النار فإنهم
محجوبون عن ربهم يدخلون النار مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفاً بما
يقول فإنما
قصده إنك لو لم تخلق ناراً أو لو
لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب إليك
والنظر إليك ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق.