صفحة جديدة 4
وأما عمل الحي بغير حب ولا إرادة
أصلاً فهذا ممتنع وان تخيله بعض الغالطين من النساك وظن أن كمال العبد أن لا تبقى
له إرادة أصلا فذاك لأنه تكلم في حال الفناء..
والفاني الذي يشتغل بمحبوبه له
إرادة ومحبة ولكن لا يشعر بها فوجود المحبة شيء
والإرادة شيء والشعور بها شيء آخر..
فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها
وهو غلط فالعبد لا يتصور أن يتحرك قط إلا عن حب وبغض وإرادة ولهذا قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء حارث وهمام فكل إنسان له حرث وهو
العمل وله هم وهو أصل الإرادة» ولكن تارة
يقوم بالقلب من محبـة الله ما يدعوه إلى طاعته ومن إجلاله والحياء منه
ما ينهاه عن معصيته..
كما قال عمر رضي الله عنه نعم
العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه أي هو لم
يعصه ولو لم يخفه فكيف إذا خافه
فإن إجلاله وإكرامه لله يمنعه من معصيته.
فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه
ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه والتنعم بتجليه
له فمعلوم أن هذا من توابع محبته له فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من
الاحتجاب وان تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق والتنعم به فهذا إنما
يطلب ذلك بعبادة الله المستلزمة محبته ثم إذا وجد حلاوة محبة الله وجدها أحلى من كل
محبة..
ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك
أعظم من كل شيء كما في الحديث أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس وهو
يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى
محبة الله التي هي الأصل وهذا كله ينبني على أصل المحبة فيقال قد نطق الكتاب والسنة
بذكر محبة العباد المؤمنين..
كما في قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾..
وقوله تعالى:
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه﴾..
وقوله تعالى:
﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي
سَبِيلِهِ﴾..
وفى الصحيحين عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
«ثلاث من كن فيه
وجد حلاوة الإيمان؛ أن
يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يجب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن
يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار».
بل محبة رسوله الله صلى الله عليه
وسلم وجبت لمحبة الله كما في قوله تعالى:
﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾..
وكما في الصحيحين عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
«والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب
إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»..
وفى صحيح البخاري عن عمر بن
الخطاب أنه قال:
«والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال لا يا
عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال والله لأنت أحب إلي من
نفسي قال الآن يا عمر».
وكذلك محبة صحابته وقرابته كما في
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار»..
وقال:
«لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر».
وقال علي رضي الله عنه انه لعهد
النبي الأمي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق.
وفى السنن أنه قال للعباس: «والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي» يعني بني هاشم..
وقد روى حديث عن ابن عباس مرفوعاً
أنه قال: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني يحب الله وأحبوا أهل بيتي
لأجلي».
وأما محبة الرب سبحانه لعبده فقال
تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلاً..
وقال تعالى:
يحبهم ويحبونه..
وقال تعالى: وأحسنوا إن الله يحب
المحسنين...
واقسطوا إن الله يحب المقسطين..
فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن
الله يحب المتقين..
فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم
إن الله يحب المتقين..
إن الله يحب الذين يقاتلون في
سبيله صفاً كأنهم
بنيان مرصوص بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين.
وأما الأعمال التي يحبها الله من
الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون
أولياء الله المتقون.
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب
والسنة والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشايخ الدين
المتبعون وأئمة التصوف أن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقة بل هي أكمل محبة
فإنها كما قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ
حُبّاً لِلَّهِ﴾ وكذلك هو سبحانه يحب عباده
المؤمنين محبة حقيقة.
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من
الطرفين زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب وأنه لا
مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة وكان أول من ابتدع هذا في الاسم هو الجعد بن
درهم في أوائل المائة الثانية فضحى به خالدين بن عبد الله القسرى أمير العراق
والمشرق بواسط خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني
مضح بالجعد بن ردهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم
نزل فذبحه وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأطهره وناظر عليه واليه أضيف
قول الجهمية فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع
عمرو بن عبيد وظهر قولهم أثناء خلافة المأمون حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوا إلى
الموافقة لهم على ذلك.