صفحة جديدة 1
وأما الرضا بالمنهيات من الكفر
والفسوق والعصيان فأكثر العلماء يقولون: لا يشرع
الرضا بها، كما لا تشرع محبتها فان الله سبحانه لا يرضاها ولا يحبها وإن كان قدرها
وقضاها..
كما قال سبحانه:
والله لا يجب الفساد.
وقال تعالى:
ولا يرضى لعباده الكفر.
وقال تعالى:
وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول..
بل يسخطها كما قال الله تعالى:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا
رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾.
وقالت طائفة: ترضى من جهة كونها
مضافة إلى الله خلقا، وتسخط من جهة كونها إلى العبد فعلا وكسبا، وهذا القول لا
ينافي الذي قبله بل هما يعودان إلى أصل واحد وهو
سبحانه إنما قدر الأشياء لحكمة فهي باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية..
وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة
إذ الشيء الواحد يجتمع فيه وصفان يجب من أحدهما ويكره من الآخر كما في الحديث
الصحيح: «ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس
عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».
وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي
هو وصف الله وفعله لا بالمقتضى الذي هو مفعوله فهو خروج منه عن مقصود الكلام، فإن
الكلام ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب تعالى من صفاته وأفعاله، وإنما الكلام في
الرضا بمفعولاته والكلام فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع.
والرضا وإن كان من أعمال القلوب
فكماله هو الحمد حتى أن بعضهم فسر الحمد بالرضا
ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد الله على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه وفى
الحديث: «أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله في السراء والضراء»..
وروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه الأمر يسره قال: «الحمد لله الذي
بنعمته تتم الصالحات» وإذا أتاه الأمر الذي يسوءه قال: «الحمد
لله على كل حال»..
وفى مسند
الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قبض ولد العبد يقول الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي، فيقولون: نعم،
فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك
واسترجع فيقول: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد»..
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم
هو صاحب لواء الحمد وأمته هم الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء..
والحمد على الضراء يوجبه
مشهدان:
أحدهما علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك مستحق له لنفسه فإنه أحسن كل
شيء
خلقه وأتقن كل شيء وهو العليم الحكيم الخبير الرحيم.
والثاني علمه بأن اختيار الله لعبده المؤمن خير من اختياره لنفسه كما روى مسلم
في صحيحه وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يقتضي الله
للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان
خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له».
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن
كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له قال
تعالى:
﴿إن فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ﴾ وذكرهما في أربعة مواضع من كتابه.
فأما من لا يصبر على البلاء ولا
يشكر على الرخاء فلا يلزم أن يكون القضاء خيراً له..
ولهذا أجيب من أورد هذا على ما
يقضى على المؤمن من المعاصي بجوابين:
أحدهما أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد كما في قوله
تعالى:
﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾
أي من ضراء..
وكقوله تعالى:
﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي بالسراء والضراء كما قال تعالى:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً
وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾..
وقال تعالى:
﴿إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا
بِهَا﴾ فالحسنات والسيئات يراد بها المسار والمضار ويراد بها الطاعات
والمعاصي.
والجواب الثاني أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور والذنوب تنقض الإيمان فإذا تاب
العبد أحبه الله وقد ترتفع درجته بالتوبة..
قال بعض السلف: كان داوود بعد
التوبة خيراً منه قبل الخطيئة فمن قضي له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير: إن
العبد ليعمل
الحسنة فيدخل بها النار وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة وذلك
أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر
الله ويتوب إليه منها وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأعمال
بالخواتيم»..