صفحة جديدة 16
فهذا الموضع قد انقسم فيه بنو
آدم إلى أربعة اقسام:
قوم ينظرون إلى جانب الأمر والنهي
والعبادة والطاعة شاهدين لإلهية الرب سبحانه الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى
جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة.
وهو حال كثير من المتفقهة
والمتعبدة فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات الله ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز
والخذلان لأن الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه والدعاء له هي التي تقوى
العبد وتيسر عليه الأمور.
ولهذا قال بعض السلف: من سره أن
يكون أقوى الناس فليتوكل على الله.
وفى الصحيحين
عن عبد الله بن عمرو «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
صفته في التوراة: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي
ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة
السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة
العوجاء، فأفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفا
بأن يقولـوا لا اله إلا الله».
ولهذا روى أن حملة العرش إنما
أطاقوا حمل العرش بقولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى
الله عليه وسلم «أنها كنز من كنوز الجنة»..
قال تعالى:
﴿يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾..
وقال تعالى:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ أن النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ﴾..
وفى صحيح البخاري عن ابن عباس رضي
الله عنه في قوله: وقالوا حسبنا
الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم
الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس أن
الناس قد جمعوا لكم.
وقسم ثان يشهدون ربوبية الحق
وافتقارهم إليه ويستعينون به، لكن على أهوائهم وأذواقهم غير ناظرين إلى حقيقة أمره
ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته وهذا حال كثير من المتفقرة والمتصوفة ولهذا كثيرا.
ما يعملون على الأحوال التي
يتصرفون بها في الوجود ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه وكثيراً ما يغلطون فيظنون أن
معصيته هي مرضاته فيعودون إلى تعطيل الأمر والنهي، يسمون هذا حقيقة ويظنون أن هذه
الحقيقة القدرية يجب الاسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التي هي
تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرا
وباطنا.
وهؤلاء كثيراً ما يسلبون أحوالهم
وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق بل كثير
منهم يرتد عن الإسلام لأن العاقبة للتقوى ومن لم يقف عند أمر الله ونهيه فليس من
المتقين فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه تارة بدعة يظنونها شرعة وتارة في
الاحتجاج بالقدر على الأمر والله تعالى لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة الأنعام
والأعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعه كما قال تعالى:
﴿وإذا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا
وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ أن اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾..
وقد ذمهم على أن حرموا ما لم
يحرمه الله وأن شرعوا ما لم يشرعه الله.
وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله
تعالى:
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾
ونظيرها في النحل ويس والزخرف وهؤلاء يكون فيهم شبه من هذا وهذا.
وأما القسم الثالث وهو من أعرض عن
عبادة الله واستعانته به فهؤلاء شر
الأقسام.
و القسم الرابع هو القسم المحمود
وهو حال الذين حققوا إياك نعبد وإياك نستعين، وقوله فاعبده وتوكل عليه فاستعانوا به
على طاعته وشهدوا أنه الله الذي لا يجوز أن
يعبد إلا إياه بطاعته وطاعة رسوله وأنه ربهم الذي ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع
وانه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وأن
يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله، قل
أفرأيتم ما
تدعون من دون الله أن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني
برحمة هل هن
ممسكات رحمته.
ولهذا قال طائفة من العلماء:
الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل
والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع وإنما
التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع.
فقد تبين أن من ظن التوكل من
مقامات عامة أهل الطريق فقد غلط غلطاً شديداً وإن كان من أعيان المشايخ كصاحب علل
المقامات وهو من أجل المشايخ وأخذ ذلك عنه صاحب محاسن
المجالس وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط وظنه أنه لا
فائدة له في تحصيل المقصود وهذه حال من جعل الدعاء كذلك وذلك بمنزلة من جعل الأعمال
المأمور بها كذلك كمن اشتغل بالتوكل عن ما يجب عليه من الأسباب التي هي
عبادة وطاعـة
مأمـور بها فان غلط هذا في ترك
الأسباب المأمور بها التي هي داخلة في قوله تعالى:
﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ كغلط الأول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى
فاعبده وتوكل عليه.
لكن يقال: من كان توكله على الله
ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة وان
كان في حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول
محرمات فهو ظالم لنفسه ومن أعرض عن التوكل فهوعاص لله ورسوله بل خارج عن حقيقة
الإيمان فكيف يكون هذا المقام للخاصة..