صفحة جديدة 14
فهذه ثلاثة أجوبة
عن قولهم المتوكل يطلب حظوظه.
وأما قولهم أن الأمور قد فرغ منها
فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه لا
حاجة إليه لأن المطلوب أن كان مقدرا فلا حاجة إليه وإن لم يكن مقدراً لم ينفع
الدعاء وهذا القول من أفسد الأقوال شرعاً وعقلاً.
وكذلك قول من قال التوكل والدعاء
لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة وإنما هو عبادة محضة وان حقيقة التوكل بمنزلة
حقيقة التفويض المحض وهذا وان كان قاله طائفة من المشايخ فهو غلط أيضا وكذلك قول من
قال أن الدعاء إنما هو عبادة محضة.
فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها
أصل واحد وهو أن هؤلاء ظنوا أن كون الأمور مقدرة
قضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة أيضا تكون من العبد ولم يعلموا أن الله سبحانه
يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التي جعلها معلقة بها من أفعال العباد وغير أفعالهم
ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الأعمال بالكلية.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم
وآله وسلم عن هذا الأصل مرات فأجاب عنه كما
أخرجا في الصحيحين عن عمـران بن حصين قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآله
وسلم يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قالوا ففيم
العمل قال كل
ميسر لما خلق له وفى الصحيحين عن
علي بن أبي طالب قال كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه
مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض ثم رفع رأسه وقال
ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من النار أو الجنة إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة
قال: فقال رجل من القوم يا نبي الله أفلا يمكث على كتابنا وندع العمل
فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى
الشقاوة قال أعملوا
فكل ميسر لما خلق له أما أهل
السعادة فييسرون للسعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة ثم قال نبي الله صلى
الله عليه وسلم فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى
فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى أخرجه الجماعة في
الصحاح والسنن والمسانيد.
وروى الترمذي أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم سئل فقيل يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقة بها وتقى
نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من
قدر الله وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عدة أحاديث.
فبين صلى الله عليه وسلم وآله وسلم
أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافى أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة
وشقاوة هذا بالأعمال السيئة فانه سبحانه
يعلم الأمور على ما هي عليه وكذلك يكتبها فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة
والشقي يشقى بالأعمال السيئة فمن كان سعيدا ييسر للأعمال الصالحة التي تقتضي
السعادة ومن كان شقياً ييسر للأعمال السيئة التي تقضي الشقاوة وكلاهما ميسر لما خلق
له وهو ما يصير إليه من مشيئـة الله
العامة الكونية التي ذكرها الله
سبحانه في كتابه في قوله تعالـى:
﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم﴾، وأما ما خلقوا له من محبة الله ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا
بموجبها
فذلك مذكور في قوله وما خلقت الجن
والأنس إلا ليعبدون والله سبحانه قد بين في كتابه في كل واحدة من الكلمات والأمر
والإرادة و الإذن و الكتاب والحكم و القضاء والتحريم ونحو ذلك ما هو ديني موافق
لمحبة الله ورضاه
وأمره الشرعي وما هو كوني موافق
لمشيئته الكونية.
مثال ذلك انه قال في الأمر الديني
أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي
القربى..
وقال تعالى:
﴿أن اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا﴾ ونحو ذلك وقال في الكوني إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن
فيكون..
وكذلك قوله تعالى:
﴿وإذا أَرَدْنَا أن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا
فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ على إحدى الأقوال في هذه الآية.