صفحة جديدة 2
وَمَنْ قَالَ: ﴿لاَ
رَيْبَ﴾
[البقرة: 2]: لَا شَكَّ، فَهَذَا تَقْرِيبٌ، وَإِلَّا فَالرَّيْبُ فِيهِ اضْطِرَابٌ
وَحَرَكَةٌ، كَمَا قَالَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ». وَفِي
الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ، فَقَالَ: لَا يُرِيبُهُ أَحَدٌ».
فَكَمَا أَنَّ
«الْيَقِينَ» ضُمِّنَ السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ «فَالرَّيْبُ» ضِدُّهُ،
[ضُمِّنَ الاضْطِرَابَ وَالْحَرَكَةِ] ونحوه «الشَّكِّ» وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ
يَسْتَلْزِمُ هَذَا المَعْنَى لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَكَذِلَكَ إِذَا
قِيلَ: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾
[البقرة: 2]: هَذَا القُرْآنُ، فَهَذَا تَقْرِيبٌ؛ لأَنَّ المُشَارَ إِلَيْهِ
وَإِنْ كَانَ وَاحِداً فَالإِشَارَةُ بِجِهَةِ الحُضُورِ غَيْرُ الإِشَارَةِ
بِجِهَةِ البُعْدِ وَالغَيْبَةِ، وَلَفْظُ «الْكِتَابُ» يَتَضَمَّنُ مِنْ كَوْنِهِ
مَكْتُوباً مَضْمُوماً مَا لَا يَتَضمَّنَهُ لَفْظُ القُرْآنِ مِنْ كَوْنِهِ
مَقْرُوءاً مُظْهَراً بَادِياً. فَهَذِهِ الفُرُوقُ مَوْجُودَةٌ فِي «القُرْآنِ».
فَإِذَا قَالَ
أَحَدُهُمْ: ﴿أَن تُبْسَلَ﴾
[الأنعام: 70] أَيْ: تُحْبَسَ، وَقَالَ الآخَرُ: تُرْتَهَنَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لَمْ
يَكُنْ مِنِ اخْتِلَافِ التَّضَادِّ، وَإِنْ كَانَ المَحْبُوسُ قَدْ يَكُونُ
مُرْتَهَناً، وَقَدْ لَا يَكُونُ؛ إِذْ هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْمَعْنَى، كَمَا
تَقَدَّمَ.
وَجَمْعُ
عِبَارَاتِ السَّلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا نَافِعٌ جِدّاً، لأنَّ مَجْمُوعَ
عِبَارَاتِهِمْ أَدَلُّ عَلَى المَقْصُودِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ عِبَارَتَيْنِ،
وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنِ اخْتِلَافٍ مُحَقَّقٍ بَيْنَهُمْ، كَمَا يُوجَدُ
مِثْلُ ذَلِكَ فِي الأَحْكَامِ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ
أَنَّ عَامَّةَ مَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِنَ الاخْتِلَافِ
مَعْلُومٌ، بَلْ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ العَامَّةِ أَوِ الخَاصَّةِ، كَذا فِي عَدَدِ
الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ رُكُوعِهَا وَمَوَاقِيتِهَا، وَفَرَائِضِ الزَّكَاةِ
وَنُصُبِهَا، وَتَعْيِينِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالطَّوَافِ وَالوُقُوفِ وَرَمْيِ
الْجِمَارِ وَالمَوَاقِيتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ
اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِي «الجَدِّ وَالإِخْوَةِ»، وَفِي «المُشَرِّكَةِ»
وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَا يُوجِبُ رَيْباً فِي جُمْهُورِ مَسَائِلِ الفَرَائِضِ، بَلْ
فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عَامَّةُ النَّاسِ، وَهُوَ عَمُودُ النَّسَبِ مِنَ
الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ، وَالكَلَالَةِ مِنَ الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ، وَمِنْ
نِسَائِهِمْ كَالأَزْوَاجِ؛ فَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ فِي الفَرَائِصِ ثَلَاثَ آيَاتٍ
منفصلة (مُفَصَّلَةٍ)؛ ذَكَرَ فِي الأُولَى الأُصُولَ وَالفُرُوعَ، وَذَكَرَ
فِي الثَّانِيَةِ الحَاشِيَةَ الَّتِي تَرِثُ بِالْفَرْضِ كَالزَّوْجَيْنِ وَوَلَدِ
الأُمِّ، وَفِي الثَّالِثَةِ الحَاشِيَةَ الوَارِثَةَ بِالتَّعْصِيبِ، وَهُمُ
الإِخْوَةُ لأَبَوَيْنِ أَوْ لأَبٍ. وَاجْتِمَاعُ الجَدِّ وَالإِخْوَةِ نَادِرٌ؛
وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الإِسْلَامِ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم.
وَالاخْتِلَافُ
قَدْ يَكُونُ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ وَالذُّهُولِ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ
سَمَاعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلغَلَطِ فِي فَهْمِ النَّصِّ، وَقَدْ يَكُونُ
لاعْتِقَادِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ. فَالمَقْصُودُ هُنَا: التَّعْرِيفُ بِمُجْمَلِ
الأَمْرِ دُونَ تَفَاصِيلِهِ.
فَصْلٌ
[فِي
نَوْعَي الاخْتِلَافِ فِي التَّفْسِيرِ المُسْتَنِدِ إِلَى النَّقْلِ، وَإِلَى
طُرُقِ الاسْتِدْلَالِ]
الاخْتِلَافُ فِي
التَّفْسِيرِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ،
وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ إِذْ العِلْمُ إِمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ،
وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ.
وَالمَنْقُولُ
إِمَّا عَنْ المَعْصُومِ، وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ المَعْصُومِ.
[النَّوْعُ
الأوَّلُ: الخِلَافُ الوَاقِعُ فِي التَّفْسِيرِ مِنَ جِهَةِ النَّقْلِ]
وَالمَقْصُودُ
بِأَنَّ جِنْسَ المَنْقُولِ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ المَعْصُومِ أَوْ غَيْرِ
المَعْصُومِ -وَهَذَا هُوَ الأَوَّلُ- فَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ
مِنْهُ وَالضَّعِيفِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِيهِ.
وَهَذَا القِسْمُ
الثَّانِي مِنَ المَنْقُولِ -وَهُوَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى الْجَزْمِ
بِالصِّدْقِ مِنْهُ- عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالكَلامُ فِيهِ مِنْ
فُضُولِ الكَلَامِ.
وَأَمَّا مَا
يَحْتَاجُ المُسْلِمُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى نَصَبَ عَلَى
الحَقِّ فِيهِ دَلِيلاً.
فَمِثَالُ مَا لَا
يُفِيدُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي لَوْنِ «كَلْبِ
أَصْحَابِ الْكَهْفِ»، وَفِي «البَعْضِ» الَّذِي ضَرَبَ بِهِ [قَوْمُ]
مُوسَى مِنَ الْبَقَرَةِ، وَفِي مِقْدَارِ «سَفِينَةِ نُوحٍ» وَمَا كَانَ
خَشَبُهَا، وَفِي اسْمِ «الغُلَامِ» الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الأُمُورُ
طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ. فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا مَنْقُولاً نَقْلاً
«صَحِيحاً» عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَاسْمِ «صَاحِبِ مُوسَى» أَنَّهُ
الْخَضِرُ، فَهَذَا مَعْلُومٌ.
وَمَا لَمْ يَكُنْ
كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْ «أَهْلِ الكِتَابِ» -كَالمَنْقُولِ عَنْ
كَعْبٍ، وَوَهْبٍ، وَمُحَمَّدٍ بْنِ إِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ يَأْخُذُ
عَنْ «أَهْلِ الكِتَابِ»- فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ
إِلَّا بِحُجَّةٍ