صفحة جديدة 1
وَمِنَ الأَقْوَالِ المَوْجُودَةِ عَنْهُمْ -وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ
اخْتِلَافاً-: أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ المَعَانِي بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ لَا
مُتَرَادِفَةٍ؛ فَإِنَّ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ قَلِيلٌ؛ وَأَمَّا فِي
أَلْفَاظِ «القُرْآنِ» فَإِمَّا نَادِرٌ، وَإِمَّا مَعْدُومٌ، وَقَلَّ أَنْ
يُعَبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَعْنَاهُ، بَلْ
يَكُونُ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِمَعْنَاهُ. وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ إِعْجَازِ
«القُرْآنِ»؛ فَإِذَا قَالَ القَائِلُ: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً﴾
[الطور: 9] إِنَّ «المَوْرَ» هُوَ الحَرَكَةُ؛ كَانَ تَقْرِيباً، إِذْ المَوْرُ
حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ سَرِيعَةٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: «الْوَحْيُ»: الإِعْلَامُ،
أَوْ قِيلَ: ﴿أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ﴾
[النساء: 163]: أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ، أَوْ قِيلَ: ﴿وَقَضَيْنَا
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾
[الإسراء: 4]: أَيْ أَعْلَمَنْا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
فَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ لَا تَحْقِيقٌ؛ فَإِنَّ «الْوَحْيَ» هُوَ إِعْلَامٌ
سَرِيعٌ خَفِيٌّ، وَالْقَضَاءُ إِلَيْهِمْ أَخَصُّ مِنَ الإِعْلَامِ؛ فَإِنَّ فِيهِ
إِنْزَالاً إِلَيْهِمْ وَإِيحَاءً إِلَيْهِمْ.
وَالْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ.
وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ، كَمَا
يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾
[ص: 24] [أَيْ: مَعَ نِعَاجِهِ] وَ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾
[آل عمران: 52] أَيْ مَعَ اللهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ «نُحَاةُ الْبَصْرَةِ» مِنَ التَّضْمِينِ؛ فَسُؤَالُ
النَّعْجَةِ يَتَضَمَّنُ جَمْعَهَا وَضَمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ.
وَكَذِلَكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ
الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾
[الإسراء: 73] ضُمِّنَ مَعْنَى «يُزِيغُونَكَ وَيَصُدُّونَكَ».
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَنَصَرْنَاهُ
مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾
[الأنبياء: 77] ضُمِّنَ مَعْنَى «نَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ».
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾
[الإنسان: 6] ضُمِّنَ «يُرْوَى بِهَا» وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.