صفحة جديدة 1
وَالآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إِنْ كَانَتْ «أَمْراً» أَوْ «نَهْياً»
فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ
بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ «خَبَراً» بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ
مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ (وَغَيْرِهِ
مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ أَيْضاً).
وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الآيَةِ؛ فَإِنَّ العِلْمَ
بِالسَّبَبِ يُورِثُ العِلْمَ بِالمُسَبَّبِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَي
الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ: رَجَعَ إِلَى
سَبَبِ يَمِينِهِ، وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَا.
وَقَوْلُهُمْ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي كَذَا» يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّهُ
سَبَبُ النُّزُولِ، وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الآيَةِ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ السَّبَبَ، كَمَا تَقُولُ: (عَنَىَ بِهَذِهِ الآيَةِ كَذَا).
وَقَدْ تَنَازَعَ العُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي
كَذَا» هَلْ يَجْرِي مَجْرَى «المُسْنَدِ» -كَمَا لو ذَكَرَ السَّبَبُ الَّذِي
أُنْزِلَتْ لأَجْلِهِ- أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ
بِـ «مُسْنَدٍ»؟
فَالبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي «المُسْنَدِ»، وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي
«المُسْنَدِ». وَأَكْثَرُ «المَسَانِيدِ» عَلَى هَذَا الاصْطِلَاحِ؛ كَـ «مُسْنَدِ
أَحْمَدَ» وَغَيْرِهِ. بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَكَرَ سَبَباً نَزَلَتْ عَقِبَهُ.
فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي «المُسْنَدِ».
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ: (نَزَلَتْ فِي كَذَا) لَا يُنَافِي
قَوْلَ الآخَرِ: (نَزَلَتْ فِي كَذَا)؛ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا،
كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ بِالمِثَالِ!!
وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ لَهَا سَبَباً نَزَلَتْ لأَجْلِهِ، وَذَكَرَ الآخَرُ
سَبَباً فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ
الأَسْبَابِ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ،
وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ.
وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفْسِيرِ
تَارَةً لِتَنَوُّعِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ
المُسَمَّى وَأَقْسَامِهِ، كَالتَّمْثِيلاتِ، هُمَا الغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ
الأُمَّةِ، الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ.
وَمِنَ التَّنَازُعِ المَوْجُودِ عَنْهُمْ: مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ
مُحْتَمِلاً لِلأَمْرَيْنِ؛ إِمَّا لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكاً فِي اللُّغَةِ، كَلَفْظِ
﴿قَسْوَرَةٍ﴾
[المدثر: 51] الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي، وَيُرَادُ بِهِ الأَسَدُ. وَلَفْظُ ﴿عَسْعَسَ﴾
[التكوير: 17]، الَّذِي يُرَادُ بِهِ إِقْبَالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ.
وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئاً فِي الأَصْلِ، لَكِنَّ المُرَادَ بِهِ أَحَدُ
النَّوْعَيْنِ، أَوْ أَحَدُ (الشيئين) الشَّخْصَيْنِ؛ كَالضَّمَائِرِ فِي
قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾
[النجم: 8-9]، وَكَلَفْظِ: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾
[الفجر 1: 3]. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ المَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلَفُ،
وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
فَالأَوَّلُ إِمَّا لِكَوْنِ الآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا
تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً. وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ المُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ
يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ؛ إِذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الفُقَهَاءِ:
«المَالِكِيَّةِ»، وَ«الشَّافِعِيَّةِ»، وَ«الحَنْبَلِيَّةِ»، وَكَثِيرٌ مِنْ
«أَهْلِ الكَلَامِ»، وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئاً، فَيَكُونُ عَامّاً
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ.
فَهَذَا النَّوْعُ إِذَا صَحَّ فِيهِ القَوْلَانِ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّانِي.