HTML Editor - Full Version
وقال من قال من السلف من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء ومن عبده بالخوف وحده فهو حرورى ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد ولهذا وجد فى المستأخرين من انبسط فى دعوى المحبة حتى اخرجه ذلك الى نوع من الرعونة والدعوى التى تنافى العبودية وتدخل العبد فى نوع من الربوبية التى لا تصلح الا الله ويدعى احدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين او يطلبون من الله ما لا يصلح بكل وجه الا الله لا يصلح للأنبياء والمرسلين وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ. وسببه ضعف تحقيق العبودية التى بينتها الرسل وحررها الامر والنهى الذى جاؤا به بل ضعف العقل الذى به يعرف العبد حقيقته واذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفى النفس محبة انبسطت النفس بحمقها فى ذلك كما ينبسط الانسان فى محبة الانسان مع حمقه وجهله ويقول انا محب فلا أؤاخذ بما افعله من انواع يكون فيها عدوان وجهل فهذا عين الضلال وهو شبيه بقول اليهود والنصارى {نحن أبناء الله وأحبّاؤه} قال الله تعالى {قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضى انهم غير محبوبين ولا منسوبين اليه بنسبه البنوة بل يقتضى انهم مربوبون مخلوقون.
فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان ومن فعل الكبائر واصر عليها ولم يتب منها فان الله يبغض منه ذلك كما يحب منه ما يفعله من الخير اذ حبه للعبد بحسب ايمانه وتقواه ومن ظن ان الذنوب لا تضره يكون الله يحبه مع اصراره عليها كان بمنزلة من زعم ان تناول السم لا يضره مع مداومته عليه وعدم تداويه منه بصحة مزاجه.
ولو تدبر الاحمق ما قص الله فى كتابه من قصص انبيائه وما جرى لهم من التوبه والاستغفار ومااصيبوا به من انواع البلاء الذى فيه تمحيص لهم وتطهير بحسب احوالهم على بعض ضرر الذنوب باصحابها ولو كان ارفع الناس مقاما فان المحب للمخلوق اذا لم يكن عارفا بمصلحته ولا مريدا لها بل يعمل بمقتضى الحب وان كان جهلا وظلما كان ذلك سببا لبغض المحبوب له ونفوره عنه بل لعقوبته وكثير من السالكين سلكوا فى دعوى حب الله انواعا من أمور الجهل بالدين اما من تعدى حدود الله واما من تضييع حقوق الله واما من ادعاء الدعاوى الباطلة التى لا حقيقة لها كقول بعضهم اى مريد لى ترك فى النار احدا فأنا منه برىء فقال الآخر اى مريد لى ترك احدا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برىء فالأول جعل مريده يخرج كل من فى النار والثانى جعل مريده يمنع اهل الكبائر من دخول النار ويقول بعضهم اذا كان يوم القيامة نصبت خيمتى على جهنم حتى لا يدخلها احد وامثال ذلك من الاقوال التى تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين وهى اما كذب عليهم اما غلط منهم ومثل هذا قد يصدر فى حال سكر وغلبة وفناء يسقط فيها تمييز الانسان او يضعف حتى لا يدرى ما قال و السكر هو لذة مع عدم تمييز ولهذا كان بين هؤلاء من اذا صحا استغفر من ذلك الكلام.
والذين توسعوا من الشيوخ فى سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا اصل مقصدهم ولهذا انزل الله للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحبكم الله فلا يكون محبا لله الا من يتبع رسوله وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية.
وكثير ممن يدعى المحبة يخرج عن شريعته وسنته ويدعى من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره حتى قد يظن احدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته بل قد جعل محبة الله ومحبة رسول الجهاد فى سبيله و الجهاد يتضمن كمال محبة ما امر الله به وكمال بغض ما نهى الله عنه ولهذا قال فى صفة من يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدن فى سبيل الله.
ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله اكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله اكمل من عبودية من قبلهم واكمل هذه الأمة فى ذلك اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن كان بهم اشبه كان ذلك فيه اكمل فأين هذا من قوم يدعون المحبة.
و فى كلام بعض الشيوخ المحبة نار تحرق فى القلب ما سوى مرادالمحبوب وارادوا ان الكون كله قد اراد الله وجوده فظنوا ان كمال المحبة انيحب العبد كل شىء حتى الكفر والفسوق والعصيان ولا يمكن احدا ان يحب كل موجود بل يحب ما يلائمه وينفعه وببغض ما ينافيه ويضره ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع اهوائهم فهم يحبون ما يهونه كالصور والرئاسة وفضول المال والبدع المضلة زاعمين ان هذا من محبة الله ومن محبة الله بغض ما ببغضه الله ورسوله وجهاد اهله بالنفس والمال واصل ضلالهم ان هذا القائل الذى قال ان المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد الله تعالى الارادة الدينية الئشرعية التى هى بمعنى محبته ورضاه فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله وهذا معنى صحيح فان من تمام الحب ان لا يحب الا ما يحبه الله فاذا احببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة واما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه فان لم اوافقه فى بغضه وكراهته وسخطه لم اكن محبا له بل محبا لما يبغضه فاتباع الشريعة والقيام بالجهاد من اعظم الفروق بين اهل محبة الله واوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من يدعى محبة اللهم ناظرا الى عموم ربوبيته او متبعا لبعض البدع المخالفة لشريعته فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله بل قد تكون دعوى هؤلاء شرا من دعوى اليهود والنصارى لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الاسفل من النار كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرا من دعواهم اذا لم يصلوا الى مثل كفرهم وفى التوراة والانجيل من محبة الله ماهم متفقون عليه حتى كذلك عندهم اعظم وصايا الناموس.
ففى الانجيل ان المسيح قال اعظم وصايا المسيح ان تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة وان ماهم فيه صل الزهد والعبادة هو من ذلك وهم برآء من محبة الله اذ لم يتبعوا ما احبه بل اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط اعمالهم والله يبغض الكافرين ويمقتهم ويلعنهم وهو سبحانه يحب من يحبه لا يمكن ان يكون العبد محبا لله والله تعالى غير محب له بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له وان كان جزاء الله لعبده اعظم كما فى الحديث الصحيح الالهى عن الله تعالى انه قال من تقرب الى شبرا تقربت اليه ذراعا ومن تقرب الى ذراعا تقربت إليه باعا ومن اتانى يمشى اتيته هرولة.
وقد اخبر سبحانه انه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويحب التوابين ويحب التوابين ويحب المتطهرين بل هو يحب من فعل ما امر به من واجب ومستحب كما فى الحديث الصحيح لايزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به الحديث.
وكثير من المخطئين الذين اتبعوا اشياخا فى الزهد والعبادة وقعوا فى بعض ما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك ويتمسكون فى الدين الذى يتقربون به الى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التى لايعرف صدق قائلها معصوما فيجعلون متبوعيهم لهم دينا كما جعل النصارى قسيسيهم ورهانهم شارعين لهم دينا ثم انهم ينتقصون العبودية ويدعون ان الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى فى المسيح ويثبتون للخاصة من المشاركة فى الله من جنس ما تثبته النصارى فى المسيح وامه الى انواع اخر يطول شرحها فى هذا الموضع.
وانما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا وكلما كان فى القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك وكل محبة لاتكون لله فهى باطلة وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل فالدينا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله ولا يكون لله الا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله بل لا يكون لله الا ما جمع الوصفين ان يكون لله وان يكون موافقا لمحبة الله ورسوله وهو الواجب والمستحب كما قال فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا .
فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب ولا بد ان يكون خالصا لوجه الله تعالى كما قال تعالى {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
وقال النبى صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد وقال النبى صلى الله عليه وسلم انما الاعمال بالنيات وانما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه.
وهذا الأصل هو اصل الدين وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين وبه ارسل الله الرسل وانزل الكتب واليه دعا الرسول وعليه جاهد وبه امر وفيه رغب وهو قطب الدين الذى تدور عليه رحاه.
والشرك غالب على النفوس وهو كما جاء فى الحديث وهو فى هذه الأمة احفى من دبيب النمل وفى حديث آخر قال ابو بكر يارسول الله كيف ننجو منه وهو اخفى من دبيب النمل فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر الا اعلمك كلمة اذا قلتها نجوت من دقة وجلة قل اللهم انى اعوذ بك ان اشرك بك وانا اعلم واستغفرك لما لا اعلم وكان عمر يقول فى دعائه اللهم اجعل عملى كله صالحا واجعله لوجهك ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها وعبوديتها له وإخلاص دينها كما قال شداد بن اوس يابقايا العرب ان اخوف ما اخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية قيل لأبى داود السجستانى وما الشهوة الخفية قال حب الرئاسة وعن كعب بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ما ذئبان جائعان ارسلا زريبة غنم بافسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه قال الترمذى حديث حسن صحيح.
فبين صلى الله عليه وسلم ان الحرص على المال والشرف فى فساد الدين لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم وذلك بين فان الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص وذلك ان القلب اذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شىء احب اليه من ذلك حتى يقدمه عليه وبذلك يصرف عن اهل الاخلاص لله السوء والفحشاء كما قال تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين}.
فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره اذ ليس عند القلب لا احلى ولا الذ ولا اطيب ولا ألين ولا انعم من حلاوة الايمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له واخلاصه الدين له وذلك يقتضى انجذاب القلب الى الله فيصير القلب منيبا الى الله خائفا منه راغبا راهبا كما قال تعالى من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب اذ المحب يخاف من زوال مطلوبة وحصول.
مرغوبة فلا يكون عبد الله ومحبة الا بين خوف ورجاء قال تعالى:{أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربّك كان محذورا} .