صفحة جديدة 23
باب في شروط صحة الدعوى
لا تصح الدعوى إلا محررة، فإن
كانت بدين على ميت مثلا، ذكر موته ونوع الدين وقدره وكل المعلومات التي بها تتضح
الدعوى، لأن الحكم مرتب عليها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«وإنما
أقضي على نحو ما أسمع» فدل الحديث على وجوب تحرير
الدعوى، ليتبين للحاكم وجه الحكم.
ولا تصح الدعوى أيضا إلا معلومة
المدعى به، فلا تصح بمجهول، بل لا بد أن تكون بشيء معلوم، ليتأتى الإلزام به إذا
ثبت؛ إلا الدعوى بما يصح مجهولا، كالوصية بشيء من ماله وعبد من عبيده جعله مهرا
ونحوه، فتصح الدعوى بمثل هذا، وإن كان مجهولا.
ولا بد أن يصرح بالدعوى؛ فلا
يكفي قوله: لي عنده كذا، حتى يقول: وأنا مطالبه به، ولا بد أن يكون المدعى به حالا؛
فلا تصح الدعوى بدين مؤجل؛ لأنه لا يجب الطلب به قبل حلوله، ولا يحبس عليه.
ويشترط لصحة الدعوى انفكاكها
عما يكذبها؛ فلا تصح الدعوى على إنسان أنه قتل أو سرق منذ عشرين سنة وسنه أقل من
ذلك؛ لأن الحس يكذبها.
وإن ادعى عقد بيع أو إجارة؛
اشترط لصحة الدعوى ذكر شروط العقد؛ لأن الناس يختلفون في الشروط، وقد لا يكون ذلك
العقد صحيحا عند القاضي.
وإن ادعى الإرث؛ فلا بد من ذكر
سببه، لأن أسباب الإرث تختلف؛ فلابد من تعيين السبب.
ويعتبر لصحة الدعوى تعيين
المدعى به إن كان حاضرا في المجلس أو البلد؛ ليزول اللبس، وإن كان المدعى به غائبا؛
فلا بد من وصفه بما يصح به السلم؛ بأن يذكر ما يضبطه من الصفات.
ويشترط لصحة البينة عدالتها،
لقوله تعالى:
﴿وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ وقوله تعالى:
﴿مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ وقوله تعالى:﴿إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ واختلف الفقهاء رحمهم الله: هل لا بد من عدالة البينة ظاهرا وباطنا
أو تكفي العدالة ظاهرا على قولين، الراجح منهما اعتبار العدالة ظاهرا؛ لقبوله شهادة
الأعرابي، ولقول عمر رضي الله عنه: المسلمون عدول
ويحكم القاضي بالبينة العادلة
ما لم يعلم خلافها، فإن علم خلاف ما شهدت به، لم يجز له الحكم بها.
ومن جهل القاضي عدالته من
الشهود؛ سأل عنه ممن له به خبرة باطنه بصحبة أو معاملة أو جوار، قال عمر رضي الله
عنه لرجل زكى رجلا عنده: أنت جاره؛ قال: لا. قال: صحبته في السفر الذي تظهر فيه
جواهر الرجال؛: قال: لا. قال: عاملته بالدينار والدرهم؛ قال: لا. قال: لست تعرفه.
وإن تعارض الجرح والتعديل في
الشاهد قدم الجرح؛ لأن الجارح معه زيادة علم خفيت على المزكي، والجارح يخبر عن أمر
باطن، والمزكي يخبر عن أمر ظاهر فقط، والجارح مثبت، والمزكي ناف، والمثبت مقدم على
النافي.
وتعديل الخصم للبينة وحده أو
تصديقه لها تعديل؛ لأن البحث عن عدالتها لحقه، ولأن إقراره بعدالة البينة إقرار بما
يوجب الحق عليه لخصمه، فيؤخذ بقراره.
وإذا علم القاضي عدالة البينة؛
حكم بها، ولم يحتج إلى التزكية، وكذا لو علم عدم عدالتها، لم يحكم بها، وإن ارتاب
في الشهود؛ سألهم كيف تحملوا الشهادة؛ وأين تحملوها؟
قال الإمام ابن القيم: وذلك
واجب عليه متى عدل عنه أثم وجار في الحكم، وشهد رجلان عند علي رضي الله عنه على رجل
أنه سرق، فاستراب منهما، فأمرهما بقطع يده، فهربا.
وإن جرح الخصم الشهود، كلف
إقامة البينة بالجرح؛ لحديث:
«البينة
على المدعي» فينظر ثلاثة أيام، فإن لم يأت ببينة على الجرح، حكم عليه بالبينة؛
لأن عجزه عن إقامة البينة على الجرح في المدة المذكورة دليل على عدم ما ادعاه.
وإن جهل القاضي حال البينة؛ طلب
من المدعي تزكيتهم؛ لتثبت عدالتهم، فيحكم بما شهدوا به، ولا بد في تزكية الشخص من
شاهدين يشهدان بعدالته، وقيل: يكفي في التزكية شاهد واحد.
ويحكم على الغائب مسافة قصر إذا
ثبت عليه الحق، لأن هندا قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني
من النفقة ما يكفيني وولدي، قال:
«خذي
ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه. فدل على صحة الحكم على الغائب، ثم إذا حضر الغائب؛ فهو
على حجته؛ لزوال المانع.
والحكم بثبوت أصل الحق لا يبطل
دعوى قضائه أو البراءة منه ونحو ذلك مما يسقط ذلك الحق.
ويعتبر في القضاء على الغائب أن
يكون في غير محل ولاية القاضي، أما لو كان غائبا في محل ولايته، ولا حاكم فيه؛ فإن
القاضي يكتب إلى من يصلح للقضاء بالحكم بينهما، فإن تعذر، فإلى من يصلح بينهما، فإن
تعذر، قال للمدعي: حقق دعواك، فإن فعل؛ أحضر خصمه، وإن بعدت المسافة.
وذكر الإمام أحمد أن مذهب أهل
المدينة أنهم يقضون على الغائب، وقال: هذا مذهب حسن.
قال الزركشي: فلم ينكر أحمد سماع الدعوى ولا البينة، وحكى قول أهل المدينة
والعراق، وكأنه عنده محل وفاق.
وتسمع الدعوى أيضا على غير
المكلف، ويحكم بها؛ لحديث هند، ثم إذا كلف بعد الحكم عليه؛ فهو على حجته.