صفحة جديدة 8
باب في ديات الأعضاء والمنافع
أولا: دية الأعضاء
* قال بعض العلماء: في الآدمي
خمسة وأربعون عضوا، وهذه الأعضاء منها ما في الإنسان منه شيء واحد، ومنها ما في
الإنسان منه اثنان فأكثر:
* فإذا تلف ما في الإنسان منه
شيء واحد كالأنف واللسان والذكر، ففيه دية تلك النفس التي قطع منها على التفصيل
السابق، سواء كان ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا أو ذميا أو غيره؛ لأن في إتلاف هذا
العضو الذي لم يخلق الله في الإنسان منه إلا شيئا واحدا إذهاب منفعة الجنس؛ فهو
كإذهاب النفس، فوجبت فيه دية النفس، وهذا محل وفاق، وفي حديث عمرو بن حزم أنه صلى
الله عليه وسلم قال:
«وفي
الذكر الدية، وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية، وفي اللسان الدية» رواه أحمد والنسائي واللفظ له،
وصححه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي.
* وما في الإنسان منه شيئان؛
كالعينين، والأذنين، والشفتين، واللَّحْيين (وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان)،
وثديي المرأة وثندوتي الرجل واليدين والرجلين والأنثيين؛ في إتلاف الاثنين مما ذكر
الدية كاملة، وفي إتلاف أحدهما نصفها، لأن فيهما منفعة وجمالا، وليس في البدن
غيرهما من جنسهما.
قال الموفق: لا نعلم فيه
مخالفا.
وفي كتاب عمرو بن حزم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له:
«وفي
الأنف إذا أوعب جدعا الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين
الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية»..
قال ابن عبد البر رحمه الله:
كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء، وما فيه متفق عليه؛ إلا قليلا.
* وما في الإنسان منه ثلاثة
أشياء: إذا أتلفها جميعا؛ ففيها دية كاملة، وفي الواحد منها ثلث الدية، وذلك
كالأنف؛ فإنه يشمل ثلاثة أشياء هي: المنخران والحاجز بينهما، فتوزع الدية عليها كما
توزع الأصابع.
* وما في الإنسان منه أربعة
أشياء؛ ففيها جميعا إذا أتلفت دية كاملة، وفي الواحد منها ربع الدية، وذلك كالأجفان
الأربعة؛ لأن فيها جمالا ظاهرا ونفعا كاملا؛ حيث تكن العين، وتحفظها من الحر
والبرد، فوجبت فيها الدية، وفي بعضها بقدره.
* وفي أصابع اليدين الدية
كاملة، وكذا أصابع الرجلين دية كاملة إذا قطعت جميعا، وفي كل أصبع عشر الدية؛ لحديث
ابن عباس مرفوعا:
«دية
أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع» رواه الترمذي وصححه..
وللبخاري عنه مرفوعا:
«هذه
وهذه سواء (يعني: الخنصر والإبهام)» فدل الحديثان على وجوب
الدية في أصابع اليدين والرجلين، وأن في كل أصبع عشرها.
* وفي كل أنملة من أصابع اليدين
والرجلين ثلث عشر الدية؛ لأن في كل إصبع ثلاثة مفاصل، فتقسم دية الإصبع على عددها،
كما قسمت دية اليد على الأصابع بالسوية، والإبهام فيه مفصلان، في كل مفصل منهما نصف
عشر الدية لما سبق.
* وفي كل سن نصف عشر الدية (خمس
من الإبل)؛ لحديث عمرو بن حزم مرفوعا:
«وفي
السن خمس من الإبل» رواه النسائي.
قال الموفق: لا نعلم خلافا في
أن دية الأسنان خمس خمس في كل سن.
ثانيا: دية المنافع
* وأما المنافع؛ فالمراد بها
منافع تلك الأعضاء المذكورة؛ كالسمع، والبصر، والشم، والكلام، والمشي، فكل عضو له
منفعة خاصة.
* ومن ذلك الحواس الأربع، وهي:
السمع، والبصر، والشم، والذوق، ففي كل حاسة منها إذا ذهبت بسبب الجناية دية كاملة.
قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل
العلم على أن في السمع الدية.
وقال الموفق: لا خلاف في وجوب
الدية بذهاب السمع.
وفي كتاب عمرو بن حزم:
«وفي المشام الدية»..
«ولقضاء عمر رضي الله عنه في رجل
ضرب رجلا فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات والرجل حي» ولا يعرف له مخالف من الصحابة.
* وتجب الدية كاملة في إذهاب كل
من الكلام والعقل والمشي والأكل والنكاح وعدم استمساك البول والغائط؛ لأن في كل
واحدة من هذه منفعة كبيرة، ليس في البدن مثلها.
* ويجب في كل واحد من الشعور
الأربعة الدية كاملة، وهي شعر الرأس وشعر اللحية وشعر الحاجبين وأهداب العينين، وفي
الحاجب الواحد نصف الدية، وفي الهدب الواجب ربع الدية؛ لأن الدية تتوزع عليها
بعددها.
ومن هنا نعلم ما للحية في
الإسلام من احترام وقيمة، حيث أوجب في إتلافها دية كاملة، وذلك لعظيم منفعتها
وجمالها ووقارها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوفيرها وإكرامها، ونهى عن
حلقها وقصها والتعدي عليها؛ فتبا لقوم حاربوها واعتدوا عليها بحلقها وإزالتها من
وجوههم تشبها بالنساء وتشبها بالكفار والمنافقين وتحولا من الرجولة والشهامة إلى
الميوعة... وهكذا.
يقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
فيجب على هؤلاء أن يراجعوا
رشدهم، ويحكموا عقولهم، ويطيعوا رسولهم صلى الله عليه وسلم، ويوفروا لحاهم التي
خلقها الله جمالا لهم وعلامة على رجولتهم.
باب في أحكام الشجاج وكسر العظام
الشجاج: جمع شجة، وهي الجرح في الرأس والوجه خاصة، سميت بذلك من الشج، وهو
لغة: القطع؛ لأنها تقطع الجلد، فإن كان القطع في غير الرأس والوجه؛ سمى جرحا لا
شجة.
وتنقسم الشجة باعتبار تسميتها
المنقولة عن العرب إلى عشرة أقسام، كل قسم له اسم خاص وحكم خاص:
الأولى: الحارصة: وهي التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلا ولا تدميه، وتسمى
القاشرة، أي: لأنها تقشر الجلد.
الثانية: البازلة: وهي التي يسيل منها الدم قليلا، وتسمى الدامعة؛ تشبيها
بخروج الدمع من العين.
الثالثة: الباضعة: وهي التي تبضع اللحم؛ أي: تشقه بعد الجلد.
الرابعة: المتلاحمة: وهي الغائصة في اللحم، ولذلك اشتقت منه.
الخامسة: السمحاق: وهي التي تنفذ من اللحم، ولا يبقى بينها وبين العظم سوى
جلدة رقيقة تسمى السمحاق، سميت الجراحة الواصلة إليها باسمها. وهذه الخمس المذكورة
من الشجاج ليس في ديتها مبلغ مقدر من الشارع، فيقدر فيها حكومة، يجتهد الحاكم في
تقديرها.
السادسة: الموضحة: وهي التي توضح العظم وتبرزه، وديتها خمسة أبعرة؛ لحديث
عمرو بن حزم:
«وفي
الموضحة خمس من الإبل»-
السابعة: الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه؛ أي: تكسره، ويجب فيها عشر من
الإبل، يروى ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، ولم يعرف له مخالف في عصره من
الصحابة.
الثامنة: المنقلة: وهي التي توضح العظم وتهشمه وتنقل العظام بحيث تحتاج إلى
جمع لتلتئم، ويجب فيها خمس عشرة من الإبل، لحديث عمرو بن حزم الذي كتبه له النبي
صلى الله عليه وسلم، قال:
«وفي
المنقلة خمس عشرة من الإبل».
التاسعة: المأمومة: وهي التي تصل إلى أم الدماغ؛ أي: جلدة الدماغ.
العاشرة: الدامغة: وهي التي تخرق تلك الجلدة.
ويجب في كل واحدة من هاتين
الشجتين المأمومة والدامغة ثلث الدية؛ لحديث عمرو بن حزم:
«وفي
المأمومة ثلث الدية» والدامغة أبلغ منها؛ فهي أولى
منها، والغالب أن صاحبها لا يسلم، ولذلك لم يرد بخصوصها تقدير -
وفي الجراحة الجائفة ثلث الدية؛
لما في كتاب عمرو بن حزم:
«وفي
الجائفة ثلث الدية».
قال الإمام الموفق: وهو قول
عامة أهل العلم، منهم أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأي.
والمراد بالجائفة: الجراحة التي تصل إلى باطن جوف بطن وظهر وصدر وحلق ومثانة.
* وأما ما يجب في كسر العظام
- فيجب في الضلع إذا جبر بعد
كسر؛ كما كان بعير، ويجب في كل واحدة من الترقوتين بعير؛ لما روي عن عمر رضي الله
عنه؛ أنه قال:
«في الضلع جمل، وفي الترقوة جمل» والترقوة هي العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف، ولكل
إنسان ترقوتان.
- 404- وإن انجبر الضلع أو
الترقوة بدون استقامة، وجب في ذلك حكومة..
ويجب في كسر الذراع، وهو الساعد
الجامع لعظمي الزند والعضد، إذا جبر مستقيما: بعيران، كما يجب ذلك أيضا في كسر
الفخذ وكسر الساق وكسر الزند، لما روى سعيد عن عمرو بن شعيب:
«أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر؛
فكتب إليه عمر: أن فيه بعيرين، وإذا كسر الزندان، ففيهما أربعة من الإبل، ولم يظهر
له مخالف من الصحابة»..
هذا ما ورد فيه التقدير من
الجراح والكسور، وما عداه. من الجرح وكسر العظام كخرز الصلب وعظم العانة؛ ففيه
حكومة،
والحكومة معناها أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوم وهي به قد
برئت؛ فما نقص من القيمة؛ فللمجني عليه مثل نسبته من الدية.
مثال ذلك: لو قدر أن قيمته لو كان عبدا سليما ستون، وقيمته بالجناية خمسون؛
ففيه سدس ديته، لأن الناقص بالتقويم واحد من ستة، وهو سدس قيمته، فيكون للمجني عليه
سدس ديته.
قال الموفق رحمه الله: الصحيح أنه لا تقدير في غير الخمس:
الضلع والترقوتين والزندين؛ لأن
التقدير إنما ثبت بالتوقيف، ومقتضى الدليل وجوب الحكومة في هذه العظام الباطنة كلها
يعني سوى هذه الخمس لقضاء عمر.... انتهى.
قال الفقهاء رحمهم الله: فإن كانت الجراحة التي تقدر فيها الحكومة في محل له مقدر في الشرع،
وذلك كالشجة التي هي دون الموضحة؛ فلا يجوز أن يبلغ بحكومتها أرش الموضحة؛ لأن
الجراحة لو كانت موضحة؛ لم تزد غرامتها على خمس من الإبل؛ فما دونها من باب أولى.
-405- وإذا برئ المجني عليه،
وعاد كما كان؛ لم تنقصه الجناية شيئا؛ فإنه يقوم وقت جريان الدم؛ لأنه لابد في هذه
الحالة من نقصه، للخوف عليه؛ ولتأثير الجناية عليه حينئذ.