صفحة جديدة 7
باب في أحكام الديات
الديات جمع دية، وهي المال
المودى إلى مجني عليه أو وليه بسبب جناية، يقال: وديت القتيل: إذا أعطيت ديته،
فالدية مصدر ودى، والهاء فيها بدل من الواو التي حذفت؛ مثل: عدة وصلة من الوعد
والوصل.
والدليل على وجوب الدية:
الكتاب، والسنة، والإجماع.
- قال الله تعالى:
﴿وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ﴾ الآية.
- وفي الحديث الصحيح:
«من
قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين: إما أن يفدي، وإما أن يقتل» رواه الجماعة.
فتجب الدية على كل من أتلف
إنسانا بمباشرة؛ كما لو ضربه أو دهسه بسيارة، أو قتله بتسبب؛ كمن حفر بئرا في طريق
أو وضع فيه حجرا فتلف بسبب ذلك إنسان، سواء كان التالف مسلما أو ذميا أو مستأمنا أو
مهادنا؛ لقوله تعالى:
﴿وَإِنْ
كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ﴾..
فإن كانت الجناية التي تلف
بسببها المجني عليه عمدا محضا فإن الدية تجب كلها في مال الجاني حالة، لأن الأصل
يقتضي أن بدل المتلف يجب على متلفه،
قال الموفق ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها
العاقلة، وهذا يقتضيه الأصل،
قال تعالى:
﴿وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ انتهى.
وإنما خولف هذا الأصل في دية
الخطأ لكثرة الخطأ، فإن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة، فإيجابها على الجاني
في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل
تخفيفا عنه؛ لأنه معذور، والعامد لا عذر له؛ فلا يستحق التخفيف عنه، ولأنه قد وجب
عليه القصاص، فإذا عفي عنه؛ فإنه يتحمل الدية؛ فداء عن نفسه، وتجب عليه الدية حالة
كسائر بدل المتلفات.
* وأما دية القتل شبه العمد
ودية القتل الخطأ، فإنهما يكونان على عاقلة القاتل؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه؛
قال:
«اقتتلت
امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها» متفق عليه،
فدل الحديث على أن دية شبه
العمد تتحملها عاقلة القاتل.
وأما دية الخطأ؛ فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنها على
العاقلة، وقال الموفق: لا نعلم خلافا أنها على العاقلة، وكذا دية ما يجري مجرى
الخطأ، كانقلاب النائم على إنسان فيقتله، وحفر البئر تعديا فيقع فيها إنسان فيموت.
وما ترتب على الفعل المأذون به
شرعا من تلف، فهو غير مضمون؛ كما لو أدب الرجل ولده أو زوجته، أو أدب سلطان أحدا من
رعيته، ولم يسرف واحد من هؤلاء في التأديب، ومات المؤدب لم يجب شيء على المؤدب؛
لأنه فعل ما له فعله شرعا، ولم يتعد فيه، فإن أسرف في التأديب، فزاد فوق المعتاد،
فتلف المؤدب؛ ضمنه، لتعديه بالإسراف.
* وإن كان التأديب لامرأة حامل،
فأسقطت حملها بسببه وجب على المؤدب ضمان الحمل بغرة عبد أو أمة؛
لما في الصحيحين: أنه صلى الله
عليه وسلم
«قضى
في إملاص المرأة بعبد أو أمة»
وهو قول أكثر أهل العلم.
* ومن أفزع حاملا فأسقطت جنينها
بسبب ذلك كما لو طلبها سلطان، أو استعدى عليها رجل بالشرط؛ وجب ضمان الجنين على من
أفزعها؛ لهلاكه بسببه؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه؛
«أنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها، فقالت: يا ويلها! ما لها
ولعمر؟ فبينما هي في الطريق، إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولدا، فصاح صيحتين ثم
مات. فاستشار عمر - أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ليس عليك شيء.
فقال علي: إن كانوا قالوا في هواك؛ فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها
فألقته»..
* ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل
بئرا أو يصعد شجرة ونحوها، ففعل، وهلك بسبب نزوله أو صعوده لم يضمنه الآمر، لأنه لم
يجن ولم يتعد عليه في ذلك.
فإن كان المأمور غير مكلف؛ ضمنه
الآمر؛ لأنه تسبب في إتلافه.
ولو استأجر شخصا لنزول البئر
وصعود الشجرة، فمات بسبب ذلك؛ لم يضمنه المستأجر، لأنه لم يجن ولم يتعد.
* ومن دعا من يحفر له بئرا
بداره، فمات بهدم لم يلقه عليه أحد فهو هدر؛ لعدم التعدي عليه.
ومن ذلك ندرك مدى اهتمام
الإسلام بحفظ الأرواح وحقن دماء الأبرياء.
لكن في وقتنا هذا كثر التهاون
بهذه المسئولية على أيدي أولئك الذين يتهورون في قيادة السيارات، فيعرضون أرواحهم
وأرواح غيرهم للهلاك، وكم هلك بسبب ذلك من الأرواح البريئة المحرمة، فقد تذهب
الجماعة بأسرها أو العائلة بأكملها على يد طائش متهور لا يقدر المسئولية ولا ينظر
في العواقب، وقد يكون السبب في ذلك آباء هؤلاء الأطفال المتهورين، حين يشترون لهم
السيارات الفارهة، ويسلمونها لهم، ليزهقوا بها الأرواح البريئة، إنهم بذلك يسلمونهم
سلاحا فتاكا يعبثون به ويحصدون به الأنفس ويروِّعون به الآمنين.
فيجب على هؤلاء أن يتقوا الله
في أولادهم وفي أرواح المسلمين، ويجب على ولاة الأمور وفقهم الله أن يأخذوا على يد
الجميع بما يضمن سلامة الجميع واستتباب الأمن؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع
بالقرآن.
باب في مقادير الديات
* مقادير ديات النفس تختلف باعتبار الإسلام والحرية والذكورة والأنوثة وكون الشخص
المقتول موجودا للعيان أو حملا في البطن.
* وأكثرها مقدار دية الحر
المسلم، حيث تبلغ ألف مثقال من الذهب، أو اثني عشر ألف درهم من الدراهم الإسلامية
التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل، أو مائة من الإبل، أو مائتي بقرة، أو ألفي شاة؛
لحديث أبي داود عن جابر رضي
الله عنه:
«فرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل
البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة»..
وعن عكرمة عن ابن عباس:
«أن رجلا قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألف درهم» رواه أبو داود وابن ماجه..
وفي كتاب عمرو بن حزم:
«على
أهل الذهب ألف دينار» رواه النسائي وغيره.
* قد اختلف أهل العلم، هل هذه
المذكورات أصول للدية، بحيث إذا دفع من تلزمه واحدا منها؛ يلزم الولي قبوله، سواء
كان ولي الجناية من أهل ذلك النوع أم لا؛ لأنه أتى بالأصل في قضاء الواجب عليه. هذا
قول جماعة من أهل العلم.
والقول الثاني
أن الأصل هو الإبل فقط، وهو قول جهور العلماء لقوله صلى الله عليه
وسلم:
«في
النفس المؤمنة مائة من الإبل».
وقوله صلى الله عليه وسلم:
«ألا
إن في قتيل عمد الخطأ مائة من الإبل»..
ولأبي داود
«أن عمر قام خطيبا، فقال: (ألا إن الإبل قد غلت؛ فقوِّم على أهل الذهب
ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل
الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة)»..
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم
غلَّظ في الإبل دية العمد، وخفف بها دية الخطأ، وأجمع على ذلك أهل العلم؛ فهي
الأصل.
وهذا القول هو الراجح، وعليه؛
فيكون ما عدا الإبل من الأصناف المذكورة يكون معتبرا بها من باب التقويم.
* وتغلظ الدية في قتل العمد
وشبهه، فتجعل المائة من الإبل أرباعا: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون،
وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة؛
لما روى الزهري عن السائب بن
يزيد، قال:
«كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم أرباعا: خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنت لبون، وخمسا
وعشرين بنت مخاض»...
فإن جاء بالإبل على هذا النمط،
لزم ولي الجناية أخذها، وإن شاء دفع قيمتها حسب ما تساوي هذه الأصناف في كل عصر
بحسبه.
* وتكون الدية في الخطأ مخففة؛
بحيث تجعل المائة من الإبل خمسة أنواع: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون
حقة، وعشرون جذعة، وعشرون من بني مخاض، هذه الأصناف أو قيمتها حسب ما تساوي في كل
عصر بحسبه.
وبنت المخاض ما تم لها سنة، وبنت اللبون ما تم لها سنتان، والحقة ما تم لها ثلاث
سنوات، والجذعة ما تم لا أربع سنين.
* ودية الحر الكتابي سواء كان
ذميا أو مستأمنا أو معاهَدا نصف دية المسلم، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:
«أن
النبى صلى الله عليه وسلم قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين» رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.
* ودية المجوسي الذمي أو
المعاهد أو المستأمن ودية الوثني المعاهد أو المستأمن: ثمانمائة درهم إسلامي؛ لما
روى ابن عدي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا:
«دية المجوسي ثمانمائة درهم»
وهو قول أكثر أهل العلم.
* ونساء أهل الكتاب والمجوس
وعبدة الأوثان على النصف من دية ذكرانهم؛ كما أن دية نساء المسلمين على النصف من
دية ذكرانهم.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل، وفي كتاب عمرو بن
حزم: دية المرأة على النصف من دية الرجل.
قال العلامة ابن القيم رحمه
الله: لما كانت المرأة أنقص من الرجل، والرجل أنفع منها، ويسد ما لا تسده المرأة
من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي
لا تتم مصالح العالم إلا بها، والذب عن الدنيا والدين؛ لم تكن قيمتهما مع ذلك
متساوية، وهي الدية، فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال؛ فاقتضت
حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته، لتفاوت ما بينهما.
* ويستوي الذكر والأنثى فيما
يوجب دون ثلث الدية لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا:
«عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته» أخرجه النسائي..
وقال سعيد بن المسيب: إنه
السنة.
وقال الإمام ابن القيم: وإن
خالف فيه أبو حنيفة والشافعي وجماعة، وقالوا: هي على النصف في القليل والكثير، ولكن
السنة أولى، والفرق فيما دون الثلث وما زاد عليه، أن ما دونه قليل، فجبرت مصيبة
المرأة فيه بمساواتها للرجل، ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية؛ لقلة
ديته، وهي الغرة، فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين... انتهى.
* ودية القن قيمته ذكرا كان أو
أنثى، صغيرا أو كبيرا، بالغة ما بلغت، وهذا مجمع عليه إذا كانت قيمته دون دية الحر،
فإن بلغت دية الحر فأكثر؛ فذهب أحمد في المشهور عنه ومالك والشافعي وأبو يوسف إلى
أن فيه قيمته بالغة ما بلغت.
ويجب في الجنين ذكرا كان أو
أنثى إذا سقط ميتا بسبب جناية على أمه عمدا أو خطأ غرة عبد أو أمة، قيمتها خمس من
الإبل؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال:
«قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة» متفق عليه.
وتورث الغرة عنه، كأنه سقط حيا؛
لأنها دية له، وهو مذهب الجمهور، وتقدر الغرة بخمس من الإبل؛ أي: بعشر دية أمه.