صفحة جديدة 9
باب في كفارة القتل
الكفارة سميت بذلك اشتقاقا من
الكفر، وهو الستر، لأنها تستر الذنب.
والدليل على وجوب كفارة القتل
الكتاب والسنة والإجماع:
- قال الله تعالى:
﴿وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾..
إلى قوله تعالى:
﴿فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾...
- وروى أبو داود والنسائي، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال في القاتل:
«أعتقوا
عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار»..
وإنما تجب الكفارة في قتل الخطأ
وشبه العمد، وأما القتل العمد العدوان، فلا كفارة فيه، لقوله تعالى:
﴿وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ ولم يذكر فيه كفارة؛
وروي أن
«سويد بن الصامت قتل رجلا، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه
القود، ولم يوجب كفارة»..
«وعمرو بن أمية الضمري قتل رجلين
عمدا، فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يوجب عليه كفارة»..
ولأن الكفارة وجبت في الخطأ
لتمحو إثمه؛ لكونه لا يخلو من تفريط؛ فلا تلزم في موضع عظم الإثم فيه؛ بحيث لا
يرتفع بها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: لا كفارة في قتل العمد، ولا في اليمين الغموس، وليس ذلك تخفيفا عن مرتكبها.
وذكر موفق الدين ابن قدامة
وغيره: أن القتل الخطأ لا يوصف بتحريم ولا إباحة؛ لأنه كقتل المجنون، لكن النفس
الذاهبة به معصومة محرمة، فلذلك وجبت الكفارة فيها... انتهى.
ومعناه أن الحكمة في تشريع
الكفارة في القتل الخطأ ترجع إلى أمرين:
الأمر الأول: أن الخطأ لا يخلو من تفريط من القاتل.
الأمر الثاني: النظر إلى حرمة النفس الذاهبة به.
وأما العمد؛ فلا تجب فيه الكفارة؛ لأن إثمه لا يرتفع بالكفارة؛ لعظمه وشدته،
لكن القاتل عمدا إذا تاب إلى الله تعالى، ومكن من نفسه؛ ليقتص منه؛ فإن ذلك يخفف
عنه الإثم، فيسقط عنه حق الله بالتوبة، وحق الأولياء بالقصاص أو العفو عنه، ويبقى
حق القتيل يرضيه الله بما شاء، هذا معنى ما قرره العلامة ابن القيم في كتابه
الجواب الكافي.
فمن قتل نفسا محرمة، ولو كان
مملوكه، أو كان كافرا معاهدا أو مستأمنا، مولودا أو جنينا بأن ضرب بطن حامل فألقت
جنينا ميتا، من قتل واحدا من هؤلاء؛ وجبت عليه الكفارة..
لعموم قوله تعالى:
﴿وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾..
وسواء انفرد بقتل النفس أو شارك
في ذلك غيره، وسواء كان القتل بمباشرة أو تسبب؛ كمن حفر بئرا متعديا في حفرها، أو
نصب سكينا... ونحو ذلك من كل فعل نتج عنه وفاة شخص.
قال الموفق: يلزم كل واحد من
شركائه كفارة، هذا قول أكثر أهل العلم. منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي انتهى.
وتجب الكفارة على القاتل، سواء
كان كبيرا أو صغيرا أو مجنونا، وسواء كان حرا أو عبدا؛ لعموم الآية.
والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن
لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين، ولا يجزئ الإطعام فيها، فإذا لم يستطع الصوم؛ بقي في
ذمته، ولا يجزئ عنه الإطعام؛ لأنه تعالى لم يذكره، والأبدال في الكفارات تتوقف على
النص دون القياس.
ويكفر العبد بالصوم؛ لأنه لا
مال له يعتق منه.
وإن كان القاتل مجنونا أو
صغيرا، كفر عنه وليه بعتق؛ لعدم إمكان الصوم منهما، ولا تدخله النيابة، وقد وجبت
الكفارة على كل منهما؛ لأنه حق مالي يتعلق بالقتل أشبه الدية، ولأنها عبادة مالية
أشبهت الزكاة.
وتتعدد الكفارة بتعدد القتل
كتعدد الدية لتعدد القتل، فلو قتل عدة أشخاص؛ وجبت عليه عدة كفارات بعددهم.
وإن كان القتل مباحا - كقتل
الباغي والمرتد والزاني المحصن والمقتول قصاصا أو حدا - أو لأجل الدفاع عن النفس؛
فلا كفارة في ذلك كله، لعدم حرمة المقتول.
* تنبيه: أداء كفارة القتل مما يتساهل فيه بعض الناس اليوم، خصوصا في حوادث
السيارات التي تذهب فيها أنفس كثيرة، فقد يستثقل من تحمل المسئولية في ذلك الصيام،
ولا سيما إذا تعددت عليه الكفارات؛ فلا يصوم، وتبقى ذمته مشغولة، كما أن هناك ظاهرة
أخرى؛ وهي أن عاقلة القاتل لا تتحمل دية الخطأ، وإن تحمل أحد منهم شيئا منها؛ فإنه
يظنه من باب التبرع، ولذلك نرى بعض من حصل منهم القتل الخطأ يسألون الناس سداد
الدية، وهذا تعطيل لحكم شرعي عظيم، أدى إلى جهل الكثير به، وربما يكون بعض
المتسولين باسم تلك الغرامة متحيلا، فيجب الأخذ على يده وردعه - عن أكل المال
بالباطل والتحيل بواسطة حمل بعضهم صور صكوك غير شرعية ولا حقيقية، وقد يكون مضى
عليها حين طويل من الدهر.
باب في أحكام القسامة
القسامة لغة: اسم مصدر، من قولهم: أقسم إقساما وقسامة، أي: حلف حلفا، والمراد
بها هنا الأيمان، أي: أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم.
وتشرع القسامة في القتيل إذا
وجد ولم يعلم قاتله واتهم به شخص.
والدليل عليها السنة والإجماع.
ففي الصحيحين عن سهل بن أبي
حثمة، أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر، فأتى محيصة إلى عبد الله
بن سهل وهو يتشحط في دمه، فأتى يهود، فقال: أنتم قتلتموه. فقالوا: لا. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
«أتحلفون
وتستحقون دم صاحبكم»..
وفي رواية:
«تأتون بالبينة؟ قالوا: ما لنا بينة. فقال: أتحلفون؛. قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد
ولم نر؟! فقال: تبرئكم يهود بخمسين يمينا. فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؛ فوداه
بمائة من الإبل»..
فدل ذلك على مشروعية القسامة،
وأنها أصل من أصول الشرع، مستقل بنفسه، وقاعدة من قواعد الأحكام، فتخصص بها الأدلة
العامة.
وأما شروط القسامة
-
فمن أهمها وجود اللوث،
وهو العداوة الظاهرة بين القتيل والمتهم بقتله، كالقبائل التي يطلب بعضها بعضا
بالثأر، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله من أجله؛ فللأولياء
حينئذ أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله، وإن كانوا غائبين.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله أن اللوث لا يختص بالعداوة، بل يتناول كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى؛
كتفرق جماعة عن قتيل وشهادة من لا يثبت القتل بشهادتهم... ونحو ذلك.
قال أحمد: أذهب إلى القسامة
إذا كان ثم لطخ، وإذا كان ثم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا كان مثل المدعى عليه
يفعل مثل هذا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
معلقا على ذلك: فذكر أمورا أربعة:
اللطخ: وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة، والسبب البين كالتفرق عن
قتيل، والعداوة، وكون المطلوب من المعروفين بالقتل، وهذا هو الصواب.
وقال الإمام ابن القيم رحمه
الله: وهذا من أحسن الاستشهاد؟ فإنه اعتماد على ظاهر الأمارات المغلبة على الظن
صدق المدعى، فيجوز له أن يحلف بناء على ذلك، ويجوز للحاكم - بل يجب عليه - أن يثبت
له حق القصاص أو الدية، مع علمه أنه لم ير ولم يشهد... انتهى.
لكن لا ينبغي للأولياء أن
يحلفوا إلا بعد الاستيثاق من غلبة الظن، وينبغي للحاكم أن يعظهم ويعرفهم ما في
اليمين الكاذبة من العقوبة.
-
ومن شروط القسامة:
أن يكون المدعى عليه القتل فيها مكلفا؛ فلا يصح الدعوى فيها على صغير ولا مجنون.
-
ومن شروطها إمكان القتل من المدعى
عليه، فإن لم يمكن منه القتل؛ لبعده عن مكان الحادث وقت وقوعه؟ لم تسمع الدعوى
عليه.
*
وصفة القسامة، أنها إذا توفرت شروط
إقامتها؛ يبدأ بالمدعين، فيحلفون خمسين يمينا توزع عليهم على قدر إرثهم من القتيل:
أن فلانا هو الذي قتله، ويكون لك بحضور المدعى عليه. فإن أبى الورثة أن يحلفوا، أو
امتنعوا من تكميل الخمسين يمينا؟ فإنه يحلف المدعى عليه خمسين يمينا إذا رضي
والمدعون بأيمانه، فإذا حلف برئ، وإن لم يرض المدعون بتحليف المدعى عليه.
فدى الإمام القتيل بالدية من
بيت المال، لأن الأنصار لما امتنعوا من قبول أيمان اليهود؟ فدى النبي - صلى الله
عليه وسلم القتيل من بيت المال، ولأنه لم يبق سبيل لإثبات الدم على المدعى عليه،
فوجب الغرم من بيت المال، لئلا يضيع دم المعصوم هدرا بلا مبرر لإهداره.
* وقد اختلف الفقهاء في الذي
يثبت في القسامة إذا توفرت شروطها وحلف أولياء القتيل خمسين يمينا، والصحيح أنها
إذا توفرت شروط القصاص بعد توفر شروط القسامة وتمامها إنما يثبت بها القصاص على
المدعى عليه..
لقول النبي - صلى الله عليه
وسلم:
«يحلف
خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته»..
وفي لفظ لمسلم:
«ويسلم إليكم» فتقوم القسامة مقام البينة.
قال العلامة ابن القيم رحمه
الله عن ثبوت الحكم بالقسامة: وليس إعطاء بمجرد الدعوى، وإنما هو بالدليل الظاهر
الذي يغلب على الظن صدقه، فوق تغليب الشاهدين، وهو اللوث والعداوة الظاهرة والقرينة
الظاهرة؟ فقوى الشارع هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء المقتول الذين يستحيل
اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه..
وقوله صلى الله عليه وسلم:
«ولو يعطى أناس بدعواهم»
لا يعارض القسامة بوجه؛ فإنما نفى الإعطاء بدعوى مجردة... انتهى.
قال الفقهاء رحمهم الله: ومن
مات في زحمة جمعة أو طواف فإنه تدفع ديته من بيت المال؛ لما روي عن عمر وعلي:
«أنه قتل رجل في زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر، فقال: بينتكم
على قاتله. فقال علي: يا أمير المؤمنين! لا يطل دم امرئ مسلم، إن علمت قاتله، وإلا؛
فأعط ديته من بيت المال»..