صفحة جديدة 11
ولا يقع الطلاق منه ولا من
وكيله إلا بالتلفظ به فلو نواه بقلبه؛ لم يقع، حتى يتلفظ ويحرك لسانه به؛ لقوله صلى
الله عليه وسلم: «إن
الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» فلا يقع الطلاق إلا بالتلفظ به؛
إلا
في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كتب صريح الطلاق كتابة تقرأ، ونواه؛ وقع، وإن لم ينوه؛ فعلى
قولين، والذي عليه الأكثر أنه يقع.
الحالة الثانية: التي يقع فيها الطلاق بدون تلفظ إشارة الأخرس بالطلاق إذا كانت
مفهومة.
وأما عدد الطلاق فيعتبر بالرجال
حرية ورقًّا لا بالنساء؛ لأن الله خاطب به الرجال خاصة،
كما قال تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾..
وقال تعالى:
﴿وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾..
وقال النبي صلى الله عليه
وسلم: «إنما
الطلاق لمن أخذ بالساق» فيملك الحر ثلاث تطليقات، وإن
كان تحته أمة، ويملك العبد تطليقتين، وإن كان تحته حرة؛ ففي حال حرية الزوجين يملك
الزوج ثلاثا بلا خلاف، وفي حال رق الزوجين يملك الزوج طلقتين بلا خلاف، وإنما
الخلاف فيما إذا كان أحد الزوجين حرا والآخر رقيقا، والصحيح أن الاعتبار بحالة
الزوج حرية ورقا كما سبق؛ لأن الطلاق حق للزوج؛ فاعتبر به.
ويجوز الاستثناء في الطلاق
ويراد به إخراج بعض الجملة بلفظ (إلا) أو ما يقوم مقامها، والاستثناء هنا إما أن
يكون من عدد الطلقات؛ كأن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، وإما أن يكون من عدد
المطلقات؛ كأن يقول: نسائي طوالق إلا فاطمة مثلا، وعلى كل يشترط لصحته في الحالتين
أن يكون المستثنى مقدار نصف المستثنى منه فأقل، فإن كان المستثنى أكثر من نصف
المستثنى منه؛ كما لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين؛ لم يصح، ويشترط أيضا التلفظ
بالاستثناء إذا كان موضوعه الطلقات، فلو قال: أنت طالق ثلاثا، ونوى: إلا واحدة؛
وقعت الثلاث؛ لأن العدد نص فيما يتناوله؛ فلا يرتفع بالنية؛ لأنه أقوى منها، ويجوز
الاستثناء بالنية من النساء، فلو قال: نسائي طوالق، ونوى: إلا فلانة؛ صح الاستثناء؛
فلا تطلق من نوى استثناءها، لأن لفظة (نسائي) تصلح للكل وللبعض؛ فله ما نوى.
ويجوز تعليق الطلاق بالشروط
ومعناه: ترتيبه على شيء حاصل أو غير حاصل ب (إن) أو
إحدى أخواتها؛ كأن يقول: إن دخلت الدار؛ فأنت طالق؛ فقد رتب وقوع الطلاق على حصول
الشرط، وهو دخول الدار، وهذا هو التعليق.
ولا يصح التعليق إلا من زوج؛ فلو قال: إن تزوجت فلانة؛ فهي طالق، ثم تزوجها؛ لم
يقع؛ لأنه حين التعليق ليس زوجا لها؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: «لا
نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه..
والله تعالى يقول:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾..
فدلت الآية والحديث على أنه لا
يقع الطلاق على الأجنبية وهذا بالإجماع إذا كان منجزا، وعلى قول الجمهور إذا كان
معلقا على تزوجها ونحوه.
فإذا علق الطلاق على شرط؛ لم
تطلق قبل وجوده، وإذا حصل شك في الطلاق، ويراد به الشك في وجود لفظه أو الشك في
عدده أو الشك في حصول شرطه:
- فأما إن شك في وجود الطلاق
منه فإن زوجته لا تطلق بمجرد ذلك؛ لأن النكاح متيقن؛ فلا يزول بالشك.
- وإن شك في حصول الشرط الذي
علق عليه الطلاق كأن يقول: إذا دخلت الدار، فأنت طالق. ثم يشك في أنها دخلتها؛
فإنها لا تطلق بمجرد الشك لما سبق.
- وإن تيقن وجود الطلاق منه،
وشك في عدده لم يلزمه إلا واحدة؛ لأنها متيقنة، وما زاد عليها مشكوك فيه، واليقين
لا يزول بالشك، وهذه قاعدة عامة نافعة في كل الأحكام، وهي مأخوذة من قوله صلى الله
عليه وسلم:
«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»..
ومن قوله لمن كان على طهارة
متيقنة وأشكل عليه حصول الناقض: «لا
ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» وغيرهما من الأحاديث.
وهذا مما يدل على سماحة هذه الشريعة وكمالها؛ فالحمد لله رب العالمين.
باب في الرجعة
الرجعة إعادة مطلقة غير بائن
إلى ما كانت عليه بغير عقد.
ودليلها: الكتاب، والسنة،
وإجماع أهل العلم.
- أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى:
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾..
وقوله تعالى:
﴿الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾..
وقال تعالى:
﴿فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾.
- وأما السنة؛ ففي قوله صلى
الله عليه وسلم في قضية ابن عمر: «مره
فليراجعها»
وطلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها.
- وأما الإجماع؛ فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق دون الثلاث
والعبد إن طلق دون اثنتين؛ أن لهما الرجعة في العدة.
والحكمة في ذلك إعطاء الزوج
الفرصة ليتروى ويستدرك إذا ندم على الطلاق وأراد استئناف العشرة مع زوجته، فيجد
الباب مفتوحا أمامه، وهذا من رحمة الله بعباده.
وأما شروط صحة الرجعة فهي:
أولا: أن يكون الطلاق دون ما يملك من العدد؛ بأن طلق حر دون الثلاث، وعبد
دون اثنتين، فإن استوفى ما يملك من الطلاق؛ لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
ثانيا: أن تكون المطلقة مدخولا بها، فإن طلقها قبل الدخول، فليس له رجعة؛
لأنها لا عدة عليها؛ لقوله تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾.
ثالثا: أن يكون الطلاق بلا عوض، فإن كان على عوض؛ لم تحل له إلا بعقد جديد
برضاها؛ لأنها لم تبذل العوض إلا لتفتدي نفسها منه، ولا يحصل مقصودها مع ثبوت
الرجعة.
رابعا: أن يكون النكاح صحيحا، أما إن طلق في نكاح فاسد، فليس له رجعة؛
لأنها تبين بالطلاق.
خامسا: أن تكون الرجعة في العدة، لقوله تعالى:
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾
أي: أولى برجعتهن في حالة العدة.
سادسا: أن تكون الرجعة منجزة؛ فلا تصح معلقة؛ كما لو قال: إذا حصل كذا؛
فقد راجعتك.
وهل يشترط أن يقصد الزوجان
بالرجعة الإصلاح؟
قال بعض العلماء: يشترط ذلك؛ لأن الله يقول:
﴿إِنْ
أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يمكن من الرجعة إلا من أراد إصلاحا وإمساكا بمعروف.
وقال البعض الآخر: لا يشترط ذلك؛ لأن الآية إنما تدل على التحضيض على الإصلاح، والمنع
من الإضرار، لا على اشتراط ذلك، والقول الأول أظهر. والله أعلم.
وتحصل الرجعة بلفظ (راجعت
امرأتي)، ونحو ذلك؛ مثل: رددتها، أمسكتها، أعدتها... وما أشبه ذلك.
وتحصل الرجعة أيضا بوطئها إذا
نوى به الرجعة على الصحيح.
وإذا راجعا؛ فإنه يسن أن يشهد على ذلك، وقيل: يجب الإشهاد؛ لقوله تعالى:
﴿وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾
وهو رواية عن الإمام أحمد، وقال الشيخ تقي الدين: لا تصح الرجعة مع الكتمان بحال.
والمطلقة الرجعية زوجة ما دامت
في العدة، لها ما للزوجات من نفقة وكسوة ومسكن، وعليها ما على الزوجة من لزوم
المسكن، وتتزين له لعله يراجعها، ويرث كل منهما صاحبه إذا مات في العدة، وله السفر
والخلوة بها، وله وطؤها.
وينتهي وقت الرجعة بانتهاء
العدة، فإذا طهرت الرجعية من الحيضة الثالثة؛ لم تحل له؛ إلا بنكاح جديد بولي
وشاهدي عدل؛ لمفهوم قوله تعالى:
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي: في العدة؛ فمفهوم الآية أنها إذا فرغت عدتها؛ لم تبح؛ إلا بعقد
جديد بشرطه، وإذا راجعها في العدة رجعة صحيحة مستوفية لشروطها؛ لم يملك من الطلاق
إلا ما بقي من عدده.
وإذا استوفى ما يملك من الطلاق؛
حرمت عليه؛ حتى يطأها زوج غيره بنكاح صحيح؛ فيشترط لحلها للأول ثلاثة شروط: أن تنكع
زوجا غيره، وأن يكون النكاح صحيحا، وأن يطأها الزوج الثاني في الفرج؛ لقوله تعالى:
﴿فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾
قال العلامة ابن القيم: وإباحتها له بعد زوج من أعظم النعم، وكانت شريعة التوراة ما لم
تتزوج، وشريعة الإنجيل المنع من الطلاق ألبتة، وشريعتنا أكمل وأقوم بمصالح العباد،
فأباح له أربعا، وأن يتسرى بما شاء، وملكه أن يفارقها، فإن تاقت نفسه إليها؛ وجد
السبيل إلى ردها، فإذا طلقها الثالثة؛ لم يبق له عليها سبيل بردها إلا بعد نكاح ثان
رغبة. انتهى. أي: لا بد أن يكون نكاح الثاني لها نكاح رغبة فيها، لا نكاح حيلة
يقصد به تحليها للأول، وإلا كان تيسا مستعارا، كما سماه النبي، ونكاحه باطل، لا تحل
به للأول. والله أعلم.