صفحة جديدة 8
كتاب الطلاق
باب في أحكام الخلع
بسم الله الرحمن الرحيم
الخلع فراق الزوج لزوجته بعوض
بألفاظ مخصوصة، سمي بذلك لأن المرأة تخلع نفسها من الزوج كما تخلع اللباس؛ لأن كلا
من الزوجين لباس للآخر؛ قال تعالى:
﴿هُنَّ
لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾
فمن المعلوم أن الزواج ترابط
بين الزوجين وتعاشر بالمعروف، ينتج عنه بناء أسرة وإنشاء جيل؛
قال تعالى:
﴿
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فإذا لم يتحقق هذا المعنى من
الزواج؛ بحيث لم توجد المودة من الطرفين، أو لم توجد من الزوج وحده؛ ساءت العشرة،
وتعسر العلاج؛ فإن الزوج مأمور بتسريح الزوجة بإحسان؛
قال تعالى:
﴿فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾..
وقال تعالى:
﴿وَإِنْ
يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا
حَكِيمًا﴾..
وأما إذا وجدت المحبة من جانب
الزوج، ولم توجد من جانب الزوجة؛ بأن كرهت خلق زوجها، أو كرهت خلقه، أو كرهت نقص
دينه، أو خافت إثما بترك حقه؛ فإنه في هذه الحالة يباح لها أن تطلب فراقه على عوض
تبذله له تفتدي به نفسها؛
لقوله تعالى:
﴿فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ﴾ أي: إذا علم الزوج أو الزوجة أنهما إذا بقيا على الزوجية لا يؤدي
كل واحد منما الواجب عليه نحو الآخر، فيحصل من جراء ذلك أن يعتدي الزوج على زوجته،
أو تخاف المرأة أن تعصي زوجها؛ فلا حرج على الزوجة أن تفتدي نفسها من الزوج بعوض،
ولا حرج على الزوج في أخذ ذلك العوض، ويخلي سبيلها.
وحكمة ذلك أن الزوجة تتخلص من
زوجها على وجه لا رجعة فيه، ففيه حل عادل للاثنين، ويسن للزوج أن يجيبها حينئذ، وإن
كان الزوج يحبها؛ استحب لها أن تصبر ولا تفتدي منه.
والخلع مباح إذا توفر سببه الذي أشارت إليه الآية الكريمة، وهو خوف الزوجين إذا
بقيا على النكاح أن لا يقيما حدود الله، وإذا لم يكن هناك حاجة للخلع؛ فإنه يكره،
وعند بعض العلماء أنه يحرم في هذه الحال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما
امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة» رواه الخمسة إلا النسائي.
قال الشيخ تقي الدين: «الخلع الذي جاءت به السنة أن تكون المرأة مبغضة للرجل، فتفتدي نفسها
منه كالأسير»
وإن كان الزوج لا يحبها، ولكنه يمسكها لغرض أن تمل وتفتدي منه؛ فإنه يكون بذلك
ظالما لها، ويحرم عليه أخذ العوض منها، ولا يصح الخلع؛
لقوله تعالى:
﴿وَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أي: لا تضاروهن في العشرة لتترك بعض ما أصدقت أو كله أو تترك حقا
من حقوقها التي لها على زوجها؛ إلا إذا كان عضله لها في تلك الحال لكونها غير عفيفة
من الزنا، ففعل ذلك ليسترجع منها الصداق الذي أعطاها، جاز له ذلك؛
لقوله تعالى:
﴿إِلَّا
أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾..
قال ابن عباس في معنى الآية:
هذا في الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها، ولا علمه مهر، فيضرها لتفتدي به،
فنهى تعالى عن ذلك، ثم قال:
﴿إِلَّا
أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ يعني: الزنا؛ فله أن يسترجع منها الصداق الذي أعطاها، ويضاجرها حتى
تتركه له، ويخالعها...
والدليل على جواز المخالعة عند
حصول السبب المسوغ لها الكتاب والسنة والإجماع.
- أما الكتاب؛ فالآية التي
أسلفنا تلاوتها، وهي قوله تعالى:
﴿فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ﴾..
- وأما السنة؛ ففي الصحيح «أن امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنه قالت: يا رسول الله! ما أعيب
عليه من دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام»
(أي: كفران العشير المنهي عنه والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له). فقال لها
الرسول صلى الله عليه وسلم: «أتردين
عليه حديقته؟. قالت: نعم. فأمرها بردها، وأمره بفراقها» رواه البخاري.
- وأما الإجماع؛ فقد قال ابن
عبد البر: لا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا المزني؛ فإنه زعم أن الآية منسوخة بقوله
تعالى:
﴿وَإِنْ
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾
ويشترط لصحة الخلع بذل عوض ممن
يصح تبرعه، وأن يكون صادرا من زوج يصح طلاقه، وأن لا يعضلها بغير حق حتى تبذله، وأن
يكون بلفظ الخلع، أما إن كان بلفظ الطلاق، أو بلفظ كناية الطلاق مع نيته؛ فهو طلاق،
ولا يملك رجعتها، لكن له أن يتزوجها بعقد جديد، ولو لم تنكح زوجا غيره، إذا لم
يسبقه من عدد الطلاق ما يصير به ثلاثا، أما إن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء،
ولم ينوه طلاقا؛ كان فسخا، لا ينقص به عدد الطلاق، ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله
عنهما،
واحتج بقوله تعالى:
﴿الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ﴾..
ثم قال تعالى:
﴿فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾..
ثم قال تعالى:
﴿فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾..
فذكر تطليقتين، ثم ذكر الخلع،
ثم ذكر تطليقة بعده، فلو كان الخلع طلاقا؛ لكان رابعا، والله أعلم.
باب في أحكام الطلاق
الطلاق في اللغة التخلية، يقال: طلقت الناقة: إذا سرحت حيث شاءت.
ومعناه شرعا: حل قيد النكاح أو بعضه.
وأما حكمه؛ فهو يختلف باختلاف الظروف والأحوال:
تارة يكون مباحا،
وتارة يكون مكروها،
وتارة يكون مستحبا،
وتارة يكون واجبا،
وتارة يكون حراما،
فتأتي عليه الأحكام الخمسة.
- فيكون مباحا إذا احتاج إليه
الزوج؛ لسوء خلق المرأة، والتضرر بها، مع عدم حصول الغرض من الزواج مع البقاء عليه.
- ويكره الطلاق إذا كان لغير
حاجة بأن كانت حال الزوجين مستقيمة، وعند بعض الأئمة يحرم في هذه الحال؛ لحديث: «أبغض
الحلال إلى الله الطلاق» رواه أبو داود وابن ماجه،
ورجاله ثقات، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حلالا، مع كونه مبغوضا
عند الله، فدل على كراهته في تلك الحال مع إباحته، ووجه كراهته أن فيه إزالة للنكاح
المشتمل على المصالح المطلوبة شرعا.
- ويستحب الطلاق في حال الحاجة
إليه بحيث يكون في البقاء على الزوجية ضرر على الزوجة؛ كما في حال الشقاق بينها
وبين الزوج، وفي حال كراهتها له؛ فإن في بقاء النكاح مع هذه الحال ضرر على الزوجة،
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا
ضرر ولا ضرار».
- ويجب الطلاق على الزوج إذا
كانت الزوجة غير مستقيمة في دينها؛ كما إذا كانت تترك الصلاة أو تؤخرها عن وقتها،
ولم يستطع تقويمها، أو كانت غير نزيهة في عرضها؛ فيجب عليه طلاقها في تلك الحال على
أصح القولين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا كانت تزني؛ لم يكن له أن يمسكها على تلك
الحال، وإلا؛ كان ديوثا.
وكذا إذا كان الزوج غير مستقيم في دينه؛ وجب على الزوجة طلب الطلاق منه، أو مفارقته
بخلع وفدية، ولا تبقى معه وهو مضيع لدينه.
وكذا يجب على الزوج الطلاق إذا
آلى من زوجته؛ بأن حلف على ترك وطئها، ومضت عليه أربعة أشهر، وأبى أن يطأها ويكفر
عن يمينه، بل استمر على الامتناع عن وطئها؛ فإنه حينئذ يجب عليه طلاقها، ويجبر
عليه؛ لقوله تعالى:
﴿لِلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ﴾..
- ويحرم الطلاق على الزوج في
حال حيض الزوجة ونفاسا وفي طهر وطئها فيه ولم يتبين حملها، وكذا إذا طلقا ثلاثا،
ويأتي بيان هذا إن شاء الله.