صفحة جديدة 7
باب في عشرة النساء
يراد بالعشرة لغة: الاجتماع
والمخالطة، فيقال لكل جماعة: عشرة ومعشر.
والمراد بها هنا ما يكون بين
الزوجين من الألفة والانضمام؛ لأنه يلزم كلا من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف؛ فلا
يماطله بحقه، ولا يتكره لبذله، ولا يتبعه أذى ومنة؛ لقوله تعالى:
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ﴾ وقال تعالى:
﴿وَلَهُنَّ
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«خيركم
خيركم لأهله» وقال صلى الله عليه وسلم:
«لو
كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لعظم حقه عليها»
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا
باتت المرأة هاجرة فراش زوجها، لعنتها لملائكة حتى تصبح»
ويسن لكل من الزوجين تحسين
الخلق لصاحبه، والرفق به وتحمل أذاه، لقوله تعالى:
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا﴾ إلى قوله:
﴿وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ﴾ قيل: هو كل واحد من الزوجين،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «استوصوا
بالنساء خيرا؛ فإنهن عوان عندكم»
وينبغي للزوج إمساك زوجته حتى مع كراهته لها لقوله تعالى:
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ قال ابن عباس في معنى الآية الكريمة: «ربما رزق منا ولدا، فجعل الله فيه خيرا كثيرا»، وفي الحديث الصحيح:
«لا
يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط - منها خلقا؛ رضي منها آخر»
ويحرم مطل كل واحد من الزوجين
بما يلزمه للزوج الآخر وكراهته لبذله.
وإذا تم العقد؛ لزم تسليم
الزوجة التي يوطأ مثلها إذا طلب الزوج تسليمها في بيته؛ إلا إذا شرطت عليه في العقد
بقاءها في دارها أو بلدها.
* وللزوج أن يسافر بها سفرا لا
معصية فيه ولا خطر «لأنه صلى الله عليه وسلم
وأصحابه كانوا يسافرون بنسائهم» لكن غالب الأسفار
المتعارف عليها في هذا الزمان هي الأسفار إلى البلاد الخارجية الكافرة وبلاد
الإباحية والفساد؛ فلا يجوز السفر إلى هذه البلاد لمجرد النزهة والتفرج؛ لما في ذلك
من الخطر الشديد على الدين والأخلاق، ويجب على المرأة وعلى أوليائها الامتناع من
سفرها مع زوجها لهذه البلاد.
وما تعورف عليه في هذا الزمان
لدى كثير من المترفين من الشباب وذوي الثروة من السفر صبيحة الزواج إلى البلاد
الخارجية الكافرة لإمضاء شهر العسل كما يسمونه، وهو في الواقع شهر السم؛ لأنه شهر
محرم، يؤدي إلى شرور كثيرة؛ من خلع الحجاب، والتزيي بزي الكفار، ومشاهدة أفعال
الكفار وتقاليدهم السخيفة، وزيارة أمكنة اللهو، حتى ترجع المرأة متأثرة بتلك
الأخلاق الرذيلة، زاهدة بأخلاق مجتمعها المسلم، فإن هذا السفر حرام شديد التحريم،
يجب الأخذ على يد مرتكبيه، ومنعهم منه، ويجب على أولياء المرأة منعها من ذلك السفر،
وتخليصها من هذا الزوج المستهتر؛ لأنها أمانة في أعناقهم، ولو رضيت هي به؛ فإنها
قاصرة النظر لنفسها، وما جعل الولي فيما عليها إلا لمنعها من مثل ذلك.
* ويحرم على الزوج وطء زوجته
حال حيضها لقوله تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ﴾..
* وللزوج إجبار زوجته على إزالة
وسخ، وأخذ ما تعافه النفس من شعر يجوز أخذه وظفر، ومنعها من كل ما له رائحة كريهة
لأن ذلك ينفره عنها.
* ويجبرها على غسل نجاسة وأداء
واجب كالصلوات الخمس، فلو امتنعت عن أدائها؛ ألزمها بذلك وأدبها، فإن صلت، وإلا
حرمت عليه الإقامة معها، وكذا عليه إجبارها على ترك المحرمات واجتنابها؛ لقوله
تعالى:
﴿الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾..
وقال تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ
اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾..
وقال تعالى:
﴿وَأْمُرْ
أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾..
وأثنى الله على نبيه إسماعيل
عليه السلام بقوله:
﴿وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا
نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾
فالزوج مسئول عن زوجته وهو
مسترعى عليها، ومسئول عن رعيته.
خصوصا وأنها تربي أولاده، وترأس
أسرته، فإذا فسدت أخلاقها، واختل دينها، أفسدت عليه أولاده وأهل بيته.
فعلى المسلمين أن يتقوا الله في نسائهم، ويتفقدوا تصرفاتهن، وقد قال النبي صلى الله
عليه وسلم: «استوصوا
بالنساء خيرا»
ويلزم الزوج أن يبيت عند زوجته إذا كانت حرة ليلة من أربع ليال إن طلبت منه ذلك؛
لأن أكثر ما يمكن أن يجمع معها من النساء ثلاث مثلا، ولأن كعب بن سوار قضى بذلك عند
عمر بن الخطاب واشتهر ولم ينكر، هذا رأي بعض الفقهاء هذا دليله وتعليله، لكن في هذا
الاستدلال والتعليل عند الشيخ تقي الدين نظر؛ حيث يرى أن التزوج بأربع لا يقتضي أنه
إذا تزوج بواحدة فقط يكون حال الانفراد كحال الاجتماع. والله أعلم.
* ويلزم الزوج الوطء إذا قدر
عليه كل ثلث سنة مرة إذا طلبت الزوجة ذلك؛ لأن الله تعالى قدر ذلك في أربعة أشهر في
حق المؤلي؛ فكذلك في حق غيره، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وجوبه بقدر كفاية
الزوجة ما لم يضره أو يشغله عن طلب معيشة من غير تقدير بمدة.
وإن سافر الزوج فوق نصف سنة،
وطلبت الزوجة قدومه لزمه ذلك؛ إلا في سفر حج واجب أو غزو واجب أو كان لا يقدر على
القدوم، فإن أبى القدوم من غير عذر يمنعه، وطلبت الزوجة التفريق بينهما، فرق بينهما
الحاكم بعد مراسلته؛ لأنه ترك حقا عليه تتضرر الزوجة بتركه.
وقال الشيخ تقي الدين: وحصول
الضرر للزوجة بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد،
ولو مع قدرته أو عجزه؛ كالنفقة وأولى.
ويحرم على كل من الزوجين التحدث
بما يجري بينهما من أمور الاستمتاع فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شر
الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه، فينشر سرها
وتنشر سره»
فدل ذلك على تحريم إفشاء الزوجين ما يجري بينهما من أمور الاستمتاع من قول أو فعل.
* وللزوج منع زوجته من الخروج
من منزله لغير حاجة ضرورية؛ فلا يتركها تذهب حيث شاءت، ويحرم عليها الخروج بلا إذنه
لغير ضرورة، ويستحب للزوج أن يأذن لها بالخروج لتمرض محرمها كأخيها وعمها لما في
ذلك من صلة الرحم.
* وليس له أن يمنعها من زيارة
أبويها لها في بيته، إلا إذا خاف منهما ضررا بإفسادها عليه بسبب زيارتهما لها؛ فله
منعهما حينئذ من زيارتها.
وله منعها من تأجير نفسها
والتحاقها بالوظائف؛ لأنه يقوم بكفايتها، ولأن ذلك يفوت عليه حقه عليها، ويعطل
تربيتها لأولادها، ويعرضها للخطر الخلقي، خصوصا في هذا الزمان، الذي قل فيه الحياء
والاحتشام، وكثر فيه دعاة السوء والإجرام، وصارت النساء تخالط الرجال في المكاتب
ومجالات الأعمال، وربما تحصل الخلوة المحرمة؛ فالخطر شديد، والابتعاد عنه واجب
أكيد.
* وله منعها من إرضاع ولدها من
غيره إلا لضرورة ولا يلزم الزوجة طاعة أبويها إذا طلبا منها فراق زوجها ولا طاعتهما
في زيارتها لها إذا كان زوجها لا يرضى بذلك، بل طاعة زوجها أحق.
وقد روى الإمام أحمد وغيره «أن عمة حصين أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أذات زوج أنت؛
قالت: نعم. قال: انظري أين أنت منه؛ فإنما هو جنتك ونارك»..
* ويجب على الزوج إذا كان له
أكثر من زوجة أن يساوي بينهن في القسم بتوزيع الزمن بينهن؛ لقوله تعالى:
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ﴾..
وقال تعالى:
﴿فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾..
وتمييزه لبعضهن عن بعض ميل يدع
الأخرى كالمعلقة، وعماد القسم الليل والمبيت؛ لأن الليل يأوي فيه الإنسان إلى
منزله، ويسكن إلى أهله، وينام على فراشه مع زوجته عادة، ومن معاشه في الليل كالحارس
ونحوه؛ فإنه يقسم بين نسائه في النهار، ويكون النهار في حقه كالليل في حق غيره.
ويقسم للحائض والنفساء من
زوجاته والمريضة لأن القصد السكن والأنس، وذلك يحصل بمبيته عندها، ولو لم يطأ، وليس
له أن يقدم بعضهن على بعض في بداية القسم، إلا بالقرعة، أو برضاهن بذلك، لأن
البداءة بها دون غيرها تفضيل لها، والتسوية بينهن واجبة، وليس له أن يسافر بإحداهن
إلا بقرعة أو برضاهن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم:
«كان
إذا أراد السفر؛ أقرع بين نسائه، فمن خرج سهمها، خرج بها معه»..
باب ما يسقط نفقة الزوجة وقسمها
* المرأة إذا سافرت بلا إذن زوجها أو سافرت بإذنه لحاجتها الخاصة بها فإنه يسقط
حقها عليه من قسم ونفقة؛ لأنها إن كان سفرها بغير إذنه؛ فهي عاصية كالناشز، وإن كان
سفرها بإذنه لحاجتها الخاصة؛ فقد تعذر على زوجها الاستمتاع بها لسبب من جهتها.
* ومن ذلك أنه لو أرادها أن
تسافر معه، فأبت ذلك فلا نفقة لها؛ لأنها عاصية بذلك.
* ومن ذلك أنها إن امتنعت من
المبيت معه في فراشه سقط حقها عليه من النفقة والقسم أيضا؛ لأنها بذلك تكون عاصية
كالناشز.
ويحرم على الزوج أن يدخل على
زوجة من زوجاته في ليلة ليست لها إلا لضرورة، وكذا في نهارها؛ إلا لحاجة.
ومن وهبت قسمها لضرتها بإذن
الزوج أو وهبته للزوج فجعله لزوجة أخرى جاز ذلك؛ لأن الحق في ذلك لهما، وقد رضيا
بتلك الهبة، وقد «وهبت سودة رضي الله عنها قسمها
لعائشة رضي الله عنها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها يومين» وإذا رجعت الواهبة وطالبت بقسمها؛ قسم لها الزوج في المستقبل.
ويجوز للزوجة أن تسامح زوجها عن
حقها في القسم والنفقة ليمسكها وتبقى في عصمته؛
لقوله تعالى:
﴿وَإِنِ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾..
قالت عائشة رضي الله عنها: «هي المرأة تكون عند الرجل، لا يستكثر منها، فيريد طلاقها، تقول:
أمسكني ولا تطلقني، وأنت في حل من النفقة علي والقسم»، «وسودة حين أسنت وخشيت أن
يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يومي لعائشة رضي الله عنها».
* ومن تزوج بكرا ومعه غيرها؛
أقام عندها سبعا ثم دار على نسائه بعد السبع، ولا يحتسب عليها تلك السبع، وإن تزوج
ثيبا؛ أقام عندها ثلاثة، ثم دار على نسائه، ولا يحتسب عليها تلك الثلاث؛ لحديث أبي
قلابة عن أنس رضي الله عنه: «من
السنة إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب؛ أقام
عندها ثلاثا ثم قسم» قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم. رواه الشيخان.
* وإن أحبت الثيب أن يقيم عندها
سبعا، فعل، وقضى مثلهن للبواقي من ضراتها، ثم بعد ذلك يبتدئ القسم عليهن ليلة ليلة،
وذلك لحديث «أم
سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها، أقام عندها ثلاثة
أيام، وقال: إنه ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت، سبعت لك، وإن سبعت لك، سبعت لنسائي»
رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
ومما يتعلق بهذا الموضوع مبحث
النشوز، وهو معصية الزوجة لزوجها فيما يجب عليها له مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع
من الأرض، فكأنها ارتفعت وتعالت عما فرض عليها من المعاشرة بالمعروف.
ويحرم على الزوجة فعل ذلك من
غير مبرر، فإذا ظهر للزوج من زوجته شيء من علامات النشوز كأن لا تجيبه إلى
الاستمتاع، أو تتثاقل إذا طلبها، فإنه عند ذلك يعظها ويخوفها بالله ويذكرها بحقه
عليها وما عليها من الإثم إذا خالفته، فإن أصرت على النشوز بعد الوعظ فإنه يهجرها
في المضجع بأن يترك مضاجعتها ولا يكلمها مدة ثلاثة أيام، فإن أصرت بعد الهجر؛ فإنه
يضربها ضربا غير مبرح (أي: غير شديد)؛ لقوله تعالى:
﴿وَاللَّاتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ﴾..
وإذا ادعى كل من الزوجين ظلم
الآخر له، وتعذر الإصلاح بينهما فإن الحاكم يبعث حكمين عدلين من أهلهما، لأن
الأقارب أخبر بالعلل الباطنة وأقرب إلى الأمانة والنظر في المصلحة، وعليهما أن
ينويا الإصلاح،
لقوله تعالى:
﴿وَإِنْ
خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ
أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ والحكمان يفعلان الأصلح من جمع وتفريق بعوض أو بدون عوض، وما
انتهيا إليه؛ عمل به؛ حلا للإشكال. والله أعلم.