صفحة جديدة 27
باب في أحكام المواريث
إن موضوع المواريث موضوع مهم
وجدير بالعناية، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلمه وتعليمه في أحاديث
كثيرة: منها: قوله صلى الله عليه وسلم:
«تعلموا
الفرائض، وعلموها الناس؛ فإنها نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول علم ينزع من أمتي» رواه ابن ماجه..
وفي رواية:
«فإني
امرؤ مقبوض، وسن العلم سيقبض وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في الفريضة، فلا يجدان
من يفصل بينهما» رواه أحمد والترمذي والحاكم.
وقد وقع ما أخبر به صلى الله
عليه وسلم، فقد أهمل هذا العلم ونسي؛ فلا وجود لتعليمه في المساجد إلا نادرا، ولا
في مدارس المسلمين إلا في بعض الجهات التعليمية على شكل ضعيف لا يفي بالغرض ولا
يضمن بقاء هذا العلم. فيجب على المسلمين أن يهبوا لإحياء هذا العلم والحفاظ عليه في
المساجد والمدارس والجامعات؛ فإنهم بأمس الحاجة إليه، وسيسألون عنه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم
قال:
«العلم
ثلاثة، وما سوى ذلك فضل: آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة»
وعن عمر رضي الله عنه: «تعلموا الفرائض؛ فإنها من
دينكم» وقال عبد الله:«من تعلم القرآن؛ فليتعلم
الفرائض» ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم عن الفرائض: «أنها نصف العلم» أن للإنسان حالتين:
حالة حياة، وحالة موت. وفي الفرائض معظم الأحكام المتعلقة بالموت، بينما يتعلق باقي
العلم بأحكام الحياة، وقيل: صارت نصف العلم؛ لأنها يحتاج إليها الناس كلهم، وقيل في
معناه غير ذلك، والمهم أن في ذلك توجيها للاهتمام بهذا العلم.
ويسمى هذا العلم بالفرائض، جمع
فريضة، مأخوذ من الفرض، وهو التقدير؛ لأن أنصباء الورثة مقدرة؛ فالفريضة نصيب مقدر
شرعا لمستحقه، وعلم الفرائض هو العلم بقسمة المواريث من حيث فقه أحكامها ومعرفة
الحساب الموصل إلى قسمتها.
ويتعلق بتركة الميت خمسة حقوق:
فيبدأ بمؤنة؛ تجهيزه من ثمن كفن ومؤنة تغسيله وأجرة حفر قبره، ثم تقضى منها ديونه،
سواء كانت لله كالزكوات والكفارات والنذور والحج الواجب أو كانت للآدميين، ثم تخرج
وصاياه؛ بشرط أن تكون في حدود الثلث فأقل، ثم يقسم الباقي بعد ذلك بين الورثة حسبما
شرعه الله عز وجل، يقدم أصحاب الفروض، فإن بقي شيء، فهو للعصبة على ما سيأتي بيانه.
ولا يجوز تغيير المواريث عن
وضعها الشرعي وذلك كفر بالله عز وجل، قال الله تعالى:﴿تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا
خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾
قال الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسيره : والإشارة بقوله: (تلك) إلى الأحكام
المتقدمة (يعنى: في المواريث)، وسماها حدودا، لكونها لا تجوز مجاوزتها ولا يحل
تعديها،﴿وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في قسمة
المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية كما يفيده عموم اللفظ؛ ﴿يُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾
إلى أن قال: وأخرج ابن ماجه عن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من
قطع ميراث وارثه؛ قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة»
انتهى. فمن تصرف في المواريث عن مجراها الشرعي، فورث غير وارث، أو حرم الوارث من كل
حقه أو بعضه، أو ساوى بين الرجل والمرأة في الميراث؛ كما في بعض الأنظمة القانونية
الكفرية؛ مخالفا بذلك حكم الله في جعله للذكر مثل حظ الأنثيين؛ فهو كافر مخلد في
النار والعياذ بالله، إلا أن يتوب إلى الله قبل موته.
إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون
النساء والصغار من الميراث، ويجعلونه للذكور الكبار الذين يركبون الخيل ويحملون
السلاح، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وقال الله تعالى:
﴿لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ وهذا لدفع ما كانت
عليه الجاهلية من عدم توريث النساء والصغار، وفي قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
وفي قوله: ﴿وَإِنْ
كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ إبطال لما عليه بعض الجاهليات المعاصرة من تسوية المرأة بالرجل في
الميراث محادة لله ورسوله وتعديا لحدود الله، فالجاهلية القديمة منعت المرأة من
الميراث بالكلية، والجاهلية المعاصرة أعطتها ما لا تستحقه، ودين الإسلام أنصفها
وأكرمها وأعطاها حقها اللائق بها، فقاتل الله الكفار والمنافقين والملحدين الذين
﴿يُرِيدُونَ
أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ
يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
باب في أسباب الإرث وبيان الورثة
أسباب الإرث وبيان الورثة
الإرث هو انتقال مال الميت إلى حي بعده حسبما شرعه الله.
وله أسباب ثلاثة:
أولها: الرحم: أي: القرابة، وهم قرابة النسب، قال الله تعالى:
﴿وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾
سواء قربت القرابة من الميت أو بعدت، إذا لم يكن دونها من يحجبها. وتشمل أصولا
وفروعا وحواشي: فالأصول هم الآباء والأجداد وإن علوا بمحض الذكور، والفروع هم
الأولاد وأولاد البنين وإن نزلوا، والحواشي هم الإخوة وبنوهم وإن نزلوا والأعمام
وإن علوا وبنوهم وإن نزلوا.
والثاني: النكاح: وهو عقد الزوجية الصحيح، ولو لم يحصل به وطء ولا خلوة؛
لعموم قوله تعالى:
﴿وَلَكُمْ
نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ إلى
قوله: ﴿وَلَهُنَّ
الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ ويتوارث
بعقد الزوجية الزوجان من الجانبين؛ فكل منهما يرث الآخر للآية الكريمة، ويتوارث به
الزوجان أيضا في عدة الطلاق الرجعي؛ لأن الرجعية زوجة، وقولهم: عقد الزوجية الصحيح
: يخرج به العقد غير الصحيح؛ فلا توارث بالنكاح الفاسد؛ لأن وجوده كعدمه.
والثالث: ولاء العتاقة؛ وهو عصوبة، سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق،
ويورث بها من جانب واحد فقط، فالمعتق يرث عتيقه دون العكس، ويخلف المعتق من بعده
عصبته بالنفس دون العصبة بالغير أو مع الغير. والدليل على التوريث بالولاء قوله صلى
الله عليه وسلم:«الولاء
لحمة كلحمة النسب» رواه ابن حبان في صحيحه
والحاكم وصححه، فشبه الولاء بالنسب، والنسب يورث به؛ فكذا الولاء، وهذا بالإجماع،
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما
الولاء لمن أعتق».
أقسام الورثة باعتبار الجنس:
الورثة ينقسمون باعتبار الجنس
إلى ذكور وإناث
والوارثون من الذكور عشرة
الابن وابنه وإن نزل بمحض
الذكور؛ لقوله تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
وابن الابن يعد ابنا؛ لقوله تعالى: ﴿يَا
بَنِي آدَمَ﴾ ﴿
يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾
والأب وأبوه وإن علا بمحض
الذكور؛ كأبي الأب وأبي الجد؛ لقوله تعالى:
﴿وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾
والجد أب، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السدس.
والأخ مطلقا، سواء كان شقيقا أو
لأب أو لأم؛ لقوله تعالى:
﴿سْتَفْتُونَكَ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا
وَلَدٌ﴾ الآية، فهذه في الإخوة لغير
الأم، وقال في الإخوة لأم: ﴿وَإِنْ
كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ وابن الأخ
لغير أم، أما ابن الأخ لأم؛ فلا يرث؛ لأنه من ذوي الأرحام.
والعم لغير أم وابنه وإن نزل
بمحض الذكور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
«ألحقوا
الفرائض بأهلها؛ فما بقي؛ فلأولى رجل ذكر»
والزوج؛ لقوله تعالى:
﴿وَلَكُمْ
نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾
والعاشر ذو
الولاء، وهو المعتق أو من يحل محله، لقوله صلى الله عليه وسلم:«الولاء
لحمة كلحمة النسب» وقوله:
«وإنما
الولاء لمن أعتق».