صفحة جديدة 24
* ومن أحكام الوصايا جواز الوصية بكل المال لمن لا وارث له؛ لقول النبي صلى الله
عليه وسلم: «إنك
أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» وورد جواز ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال به جمع من العلماء؛
لأن المنع من الوصية بما زاد عن الثلث لأجل حق الورثة، فإذا عدموا؛ زال المانع؛
لأنه لم يتعلق به حق وارث ولا غريم؛ فأشبه ما لو تصدق بماله في حال صحته.
قال الإمام ابن القيم: الصحيح أن ذلك له؛ لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث إذا
كان له ورثة، فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله... انتهى كلام ابن
القيم.
*
ومن أحكام الوصايا
أنه إذا لم يف ثلث مال الموصي بها ولم تجز الورثة الزيادة على الثلث، فإن النقص
يدخل على الجميع بالقسط فيتحاصون، ولا فرق بين متقدمها ومتأخرها؛ لأنها كلها تبرع
بعد الموت، فوجبت دفعة واحدة، تساوى أصحابها في الأصل وتفاوتوا في المقدار، فوجبت
المحاصة، كمسائل العول في الفرائض إذا زادت على أصل المسألة.
مثال ذلك: لو أوصى لشخص بمائة
ريال، ولآخر بمائة ريال، ولثالث بخمسين ريالا، ولرابع بثلاثين ريالا، ولخامس بعشرين
ريالا، وثلث ماله مائة ريال فقط، ومجموع الوصايا ثلاث مائة ريال، فإذا نسبت مبلغ
الثلث إلى مبلغ مجموع الوصايا؛ بلغ ثلثه، فيعطى كل واحد ثلث ما أوصى له به فقط.
*
ومن أحكام الوصايا
أن الاعتبار بصحتها وعدم صحتها بحالة الموت، فلو أوصى لوارث، فصار عند الموت غير
وارث كأخ حجب بابن تجدد؛ صحت الوصية اعتبارا بحال الموت؛ لأنه الحال الذي يحصل به
الانتقال إلى الوارث والموصى له، وبعكس ذلك، لو أوصى لغير وارث، فصار عند الموت
وارثا؛ فإنها لا تصح الوصية؛ كما لو أوصى لأخيه مع وجود ابنه حال الوصية، ثم مات
ابنه، فإنها تبطل الوصية إن لم تجزها الورثة؛ لأن أخاه صار عند الموت وارثا.
ويترتب على هذا الحكم أيضا أنه
لا يصح قبول الوصية ولا يملك الموصى له العين الموصى بها إلا بعد موت الموصي؛ لأن
ذلك وقت ثبوت حقه، ولا يصح القبول قبل موت الموصي. قال الموفق: لا نعلم خلافا بين
أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت، وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء
كالمساكين أو من لا يمكن حصرهم كبني تميم أو على مصلحة كالمساجد؛ لم تفتقر إلى
قبول، ولزمت بمجرد الموت، أما إذا كانت على معين، فإنها تلزم بالقبول بعد الموت .
*
ومن أحكام الوصية
أنه يجوز للموصي الرجوع فيها ونقضها أو الرجوع في بعضها لقول عمر: يغير الرجل ما
شاء في وصيته وهذا متفق عليه بين أهل العلم، فإذا قال: رجعت في وصيتي، أو:
أبطلتها... ونحو ذلك؛ بطلت؛ لا سبق من أن الاعتبار بحالة موت الموصي من حيث القبول
ولزوم الوصية؛ فكذلك للموصي أن يرجع عنها في حياته، فلو قال: إن قدم زيد؛ فله ما
وصيت به لعمرو. فقدم زيد في حياة الموصي؛ فالوصية له، ويكون الموصي بذلك قد رجع عن
الوصية لعمرو، وإن لم يقدم زيد إلا بعد وفاة الموصي؛ فالوصية لعمرو؛ لأنه لما مات
الموصي قبل قدومه استقرت الوصية للأول وهو عمرو.
*
ومن أحكام الوصية
أنه يخرج الواجب في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية كالزكاة والحج والنذور
والكفارات أولا، وإن لم يوص به؛ لقوله تعالى:﴿مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾
ولقول علي رضي الله عنه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية، رواه
الترمذي وأحمد وغيره، فدل على تقديم الدين على الوصية، وفي الصحيح :
«اقضوا
الله؛ فالله أحق بالوفاء» فيبدأ
بالدين، ثم الوصية، ثم الإرث؛ بالإجماع.
والحكمة في تقديم ذكر الوصية
على الدين في الآية الكريمة، وإن كانت تتأخر عنه في التنفيذ: أنها لما أشبهت
الميراث في كونها بلا عوض؛ كان في إخراجها مشقة على الوارث، فقدمت في الذكر، حثا
على إخراجها، واهتماما بها، وجيء بكلمة (أو) التي للتسوية، فيستويان في الاهتمام،
وإن كان الدين مقدما عليها.
* ومن هنا؛ فإن أمر الوصية مهم،
حيث نوه الله بشأنها في كتابه الكريم، وقدمها في الذكر على غيرها؛ اهتماما بها،
وحثا على تنفيذها، ما دامت تتمشى على الوجه المشروع، وقد توعد الله من تساهل بشأنها
أو غير فيها وبدل من غير مسوغ شرعي، فقال سبحانه:﴿فَمَنْ
بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قال
الإمام الشوكاني في تفسيره: والتبديل التغيير، وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة
للحق التي لا جنف فيها ولا مضارة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء،
فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به... انتهى.
* ومن أحكام الوصية صحتها لكل
شخص يصح تملكه، سواء كان مسلما أو كافرا؛ لقوله تعالى:
﴿إِلَّا
أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا﴾..
قال محمد ابن الحنفية: «هو وصية المسلم لليهودي والنصراني»
وقد كسا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخا له وهو مشرك، وأسماء وصلت أمها وهي راغبة
عن الإسلام، وصفية أم المؤمنين أوصت بثلثها لأخ لها يهودي، ولقوله تعالى:﴿لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
وإنما تصح وصية المسلم للكافر
المعين كما ورد، وأما الكافر غير المعين؛ فلا تصح الوصية له؛ كما لو أوصى لليهود أو
النصارى أو فقرائهم، وكذا لا تصح الوصية للكافر المعين بما لا يجوز تمليكه إياه
وتمكينه منه، كالمصحف، والعبد المسلم، أو السلاح.