صفحة جديدة 23
باب في أحكام الوصايا
* الوصية لغة مأخوذة من وصيت الشيء إذا وصلته، سميت بذلك لأنها وصل لما كان في
الحياة بما بعد الموت؛ لأن الموصي وصل بعض التصرف الجائز له في حياته ليستمر بعد
موته.
* والوصية في اصطلاح الفقهاء:
هي الأمر بالتصرف بعد الموت، أو بعبارة أخرى: هي التبرع بالمال بعد الموت.
* والدليل على مشروعيتها الكتاب
والسنة والإجماع. - قال الله تعالى:
﴿كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾
وقال تعالى: ﴿مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن
الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم».
- وأجمع العلماء على جوازها.
* والوصية تارة تكون واجبة
وتارة مستحبة - فتجب الوصية بما له وما عليه من الحقوق التي ليس فيها إثباتات لئلا
تضيع، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«ما حق
امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين؛ إلا ووصيته مكتوبة عنده»
فإذا كان عنده ودائع للناس أو في ذمته حقوق لهم، وجب عليه أن يكتبها ويبينها.
- وتكون الوصية مستحبة بأن يوصي
بشيء من ماله يصرف في سبل البر والإحسان ليصل إليه ثوابه بعد وفاته؛ فقد أذن له
الشارع بالتصرف عند الموت بثلث المال، وهذا من لطف الله بعباده؛ لتكثير الأعمال
الصالحة لهم.
* وتصح الوصية حتى من الصبي
العاقل كما تصح منه الصلاة، وتثبت بالإشهاد وبالكتابة المعروفة بخط الموصي.
* ومن أحكام الوصية أنها تجوز
بحدود ثلث المال فأقل، وبعض العلماء يستحب أن لا تبلغ الثلث؛ فقد ورد عن أبي بكر
الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم: - فقد قال أبو بكر رضي
الله عنه: «رضيت بما رضي الله به لنفسه» يعني: في قوله تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾
- وقال علي رضي الله عنه:«لأن أوصي بالخمس أحب
إلي من أوصي بالربع» - وقال ابن عباس رضي الله
عنهما: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:«الثلث،
والثلث كثير».
* ولا تجوز الوصية بأكثر من
الثلث لمن له وارث؛ إلا بإجازة الورثة؛ لأن ما زاد على الثلث حق لهم، فإذا أجازوا
الزيادة عليه، صح ذلك، وتعتبر إجازتهم لها بعد الموت.
* ومن أحكام الوصايا أنها لا
تصح لأحد من الورثة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا وصية لوارث»
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وله شواهد، وقال الشيخ تقي الدين: اتفقت
الأمة عليه ، وذكر الشافعي أنه متواتر، فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من
أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام
الفتح: «لا
وصية لوارث»
ويأثرونه عمن لقوه من أهل العلم؛ إلا إذا أجاز الورثة الوصية للوارث؛ فإنما تصح؛
لأن الحق لهم، وتعتبر صحة إجازتهم الوصية بالزيادة على الثلث لغير الوارث وإجازتهم
الوصية للوارث إذا كانت الإجازة صادرة منهم في مرض موت الموصي أو بعد وفاته...
* ومن أحكام الوصية أنها إنما
تستحب في حق من له مال كثير ووارثه غير محتاج، لقوله تعالى:
﴿كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾
والخير هو المال الكثير عرفا؛ فتكره وصية من ماله قليل ووارثه محتاج؛ لأنه يكون
بذلك قد عدل عن أقاربه المحاويج إلى الأجانب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن
أبي وقاص: «إنك
أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»
وقال الشعبي: ما من مال أعظم أجرا من مال يتركه الرجل لولده ويغنيهم به عن الناس ،
وقال علي لرجل: «إنما تركت شيئا يسيرا، فدعه
لورثتك» وكان كثير من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم لم يوصوا.
* وإذا كان قصد الموصي المضارة
بالوارث ومضايقته فإن ذلك يحرم عليه ويأثم به؛ لقوله تعالى:
﴿غَيْرَ
مُضَارٍّ﴾ وفي الحديث:
«إن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره الموت، فيضار في الوصية، فتجب له
النار» وقال ابن عباس:
«الإضرار في الوصية من الكبائر» قال الإمام
الشوكاني رحمه الله: قوله: ﴿غَيْرَ
مُضَارٍّ﴾ أي: يوصي حال كونه غير مضار
لورثته بوجه من وجوه الضرار، كأن يقر بشيء ليس عليه، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها
إلا الضرار بالورثة، أو يوصي لوارث مطلقا أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجز
الورثة، وهذا القيد - أعني قوله:﴿غَيْرَ
مُضَارٍّ﴾ راجع إلى الوصية والدين
المذكورين؛ فهو قيد لها، فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها أو
التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته، فهو باطل مردود، لا ينفذ منه شيء، لا
الثلث ولا دونه انتهى كلام الشوكاني رحمه الله.