صفحة جديدة 22
كتاب المواريث
باب في تصرفات المريض المالية
بسم الله الرحمن الرحيم
* حالة الصحة تختلف عن حالة
المرض من حيث نفوذ تصرفات الإنسان في ماله في حدود الشرع والرشد من غير استدراك
عليه، والصدقة في هذه الحالة أفضل من الصدقة في حالة المرض وأعظم أجرا. قال الله
تعالى:
﴿وَأَنْفِقُوا
مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ
رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
وفي الصحيحين: أن النبي لما
سئل: أي الصدقة أفضل؛ قال: «أن
تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم؛
قلت: لفلان كذا، وقد كان لفلان»
* والمرض ينقسم إلى قسمين:
أولا: مرض غير مخوف: أي: لا يخاف منه الموت في العادة، كوجع ضرس وعين
وصداع يسير، فهذا القسم من المرض يكون تصرف المريض فيه لازما كتصرف الصحيح، وتصح
عطيته من جميع ماله، ولو تطور إلى مرض مخوف ومات منه، اعتبارا بحاله حال العطية؛
لأنه في حال العطية في حكم الصحيح.
ثانيا: مرض مخوف: بمعنى أنه يتوقع منه الموت عادة؛ فإن تبرعات المريض في
هذا المرض وعطاياه تنفذ من ثلثه لا من رأس المال، فإن كانت في حدود الثلث فما دون؛
نفذت، وإن زادت عن ذلك؛ فإنها لا تنفذ، إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت، لقوله صلى
الله عليه وسلم: «إن
الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم» رواه ابن ماجه والدارقطني، فدل هذا الحديث وما ورد بمعناه على
الإذن بالتصرف في ثلث المال عند الوفاة، وهو مذهب جمهور العلماء، ولأنه في حال
المرض المخوف يغلب موته به، فكانت عطيته من رأس المال تجحف بالوارث، فردت إلى الثلث
كالوصية.
ومثل حالة المرض المخوف في حكم
التصرف المالي حالة الخطر، كمن وقع الوباء في بلده، أو كان بين الصفين في القتال،
أو كان في لجة البحر عند هيجانه؛ فإنه لا ينفذ تبرعه في تلك الحال فيما زاد على
الثلث، إلا بإجازة الورثة بعد الموت، ولا يصح تبرعه في تلك الحال لأخد ورثته بشيء؛
إلا بإجازة الورثة إن مات في هذه الحال، فإن عوفي من المرض المخوف؛ نفذت عطاياه
كلها؛ لعدم المانع.
ومن كان مرضه مزمنا، ولم يلزمه
الفراش، فتبرعاته تصح من جميع ماله كتبرعات الصحيح؛ لأنه لا يخاف منه تعجيل الموت؛
فهو كالهرم، أما إن لزم من به مرض مزمن الفراش؛ فهو كمن مرضه مخوف، لا تصح وصاياه
إلا في حدود الثلث، ولغير الوارث؛ إلا إذا أجازها الورثة؛ لأنه مريض ملازم للفراش،
يخشى عليه التلف.
* ويعتبر مقدار الثلث عند موته؛
لأنه وقت لزوم الوصايا، ووقت استحقاقها، فتنفذ الوصايا والعطايا من ثلثه حينئذ، فإن
ضاق عنها، قدمت العطايا على الوصايا؛ لأنها لازمة في حق المريض، فقدمت على الوصية؛
كالعطية في حال الصحة.
* وهناك فروق بين الوصية
والعطية؛ فقد قال الفقهاء رحمهم الله:
إن الوصية تفارق العطية في أربعة أشياء
أحدها: أنه يسوى بين المتقدم المتأخر في الوصية؛ لأنها تبرع بعد الموت،
يوجب دفعة واحدة، أما العطية؛ فيبدأ بالأول فالأول فيها؛ لأنها تقع لازمة في حق
المعطى.
الثاني: أن المعطي لا يملك الرجوع في العطية بعد قبضها؛ بخلاف الوصية؛ فإن
الموصي يملك الرجوع فيها؛ لأنها لا تلزم إلا بالموت.
الثالث: أن العطية يعتبر القبول لها عند وجودها؛ لأنها تملك في الحال؛
بخلاف الوصية؛ فإنها تمليك بعد الموت؛ فاعتبر القبول عند وجوده، فلا حكم لقبولها
قبل الموت
الرابع: أن العطية يثبت الملك فيها عند قبولها؛ بخلاف الوصية، فإنها لا
تملك قبل الموت؛ لأنها تمليك بعده؛ فلا تتقدمه.