صفحة جديدة 21
باب في أحكام الهبة والعطية
*
الهبة: هي التبرع من جائز التصرف في حياته لغيره بمال معلوم * وقد كان
النبي صلى الله عليه وسلم يهدي ويهدى إليه، ويعطي ويعطى؛ فالهبة والهدية من السنة
المرغب فيها لما يترتب عليها من المصالح، قال: صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا»..
وعن عائشة رضي الله عنها؛
قالت: «كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها»..
وقال صلى الله عليه وسلم:«تهادوا؛ فإن الهدية تسل السخية»
* وتلزم الهبة إذا قبضها
الموهوب له بإذن الواهب فليس له الرجوع فيها، أما قبل القبض؛ فله الرجوع، بدليل
حديث عائشة رضي الله عنها:«أن أبا بكر نحلها جذاذ عشرين وسقا
من ماله بالعالية، فلما مرض؛ قال: يا بنية! كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا، ولو كنت
حزتيه أو قبضتيه؛ كان لك؛ فإنما هو اليوم مال وارث؛ فاقتسموه على كتاب الله تعالى».
* وإن كانت الهبة في يد المتهب
وديعة أو عارية، فوهبها له؛ فاستدامته لها تكفي عن قبضها ابتداء.
* وتصح به الدين لمن هو في
ذمته، ويعتبر ذلك إبراء له، ويجوز هبة كل ما يجوز بيعه.
* ولا تصح الهبة المعلقة على
شرط مستقبل كأن يقول: إذا حصل كذا؛ فقد وهبتك كذا.
* ولا تصح الهبة مؤقتة، كأن
يقول: وهبتك كذا شهرا أو سنة؛ لأنها تمليك للعين، فلا تقبل التوقيت؛ كالبيع، لكن
يستثنى من التعليق تعليق الهبة بالموت؛ كأن يقول: إذا مت، فقد وهبتك كذا وكذا،
وتكون وصية تأخذ أحكامها.
* ولا يجوز للإنسان أن يهب لبعض
أولاده ويترك بعضهم أو يفضل بعضهم على بعض في الهبة بل يجب عليه العدل بينهم،
بتسوية بعضهم ببعض، لحديث النعمان بن بشير: أن أباه أتى به النبي صلى الله عليه
وسلم لما نحله نحلة ليشهد عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: «أكل ولدك نحلت مثل هذا؟. فقال: لا. فقال:
أرجعه . ثم قال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» متفق عليه، فدل على وجوب العدل بين الأولاد
في العطية، وأنها تحرم الشهادة على تخصيص بعضهم أو تفضيله تحملا وأداء إن علم ذلك.
* وإذا وهب الإنسان هبة وقبضها
الموهوب له، حرم عليه الرجوع فيها وسحبها منه، لحديث ابن عباس مرفوعا:«العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» فدل هذا على تحريم الرجوع في الهبة؛ إلا ما استثناه الشارع، وهو
الأب؛ فله أن يرجع فيما وهبه لولده، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا
يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده» رواه الخمسة وصححه الترمذي.
* كما أن للوالد أن يأخذ ويمتلك
من مال ولده ما لا يضر الولد ولا يحتاجه؛ لحديث عائشة: «إن
أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم»
رواه الترمذي وحسنه، ورواه غيره، وله شواهد تدل بمجموعها على أن للوالد الأخذ
والتملك والأكل من مال ولده ما لا يضر الوالد ولا يتعلق بحاجته، بل إن قوله صلى
الله عليه وسلم:«أنت
ومالك لأبيك» يقتضي إباحة نفسه لأبيه كإباحة ماله، فيجب على الولد أن
يخدم أباه بنفسه، ويقضي له حوائجه. وليس للوالد أن يتملك من مال الولد ما يضره أو
تتعلق به حاجته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا
ضرر ولا ضرار» وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه؛ لأن رجلا جاء إلى النبي صلى
الله عليه وسلم بأبيه يقتضيه دينا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت
ومالك لأبيك» فدل على أنه لا يحق للولد مطالبة والده بالدين، وقد قال الله
تعالى:
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا﴾ فأمر سبحانه بالإحسان إلى
الوالدين، ومن الإحسان إليهما عدم مطالبتهما بالحق الذي عليهما للولد، ما عدا
النفقة الواجبة على الوالد، فللولد مطالبته بها، لضرورة حفظ النفس إذا كان الولد
يعجز عن الكسب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لهند:
«خذي
ما يكفيك وولدك بالمعروف»
* والهدية تذهب الحقد وتجلب
المحبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«تهادوا؛ فإن الهدايا تذهب وحر الصدور»
* ولا ينبغي رد الهدية وإن قلت،
وتسن الإثابة عليها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها، وذلك من
محاسن الدين، ومكارم الشيم.