صفحة جديدة 11
كتاب الشركات
باب في أحكام الشراكة وأنواع الشركات
بسم الله الرحمن الرحيم
·
موضوع الشركات ينبغي التعرف على أحكامه لكثرة التعامل به؛ إذ لا يزال الاشتراك في
التجارة وغيرها مستمرا بين الناس، وهو من باب التعاون على تحصيل المصالح بتنمية
الأموال واستثمارها وتبادل الخبرات.
·
فالشركة في التجارة وغيرها مما جاءت بجوازه نصوص الكتاب والسنة.
-
قال الله تعالى:
﴿وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾
والخلطاء هم الشركاء، ومعنى:﴿لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يظلم بعضهم
بعضا، فدلت الآية الكريمة على جواز الشركة، والمنع من ظلم الشريك لشريكه.
-
والدليل من السنة على جواز الشركة قوله صلى الله عليه وسلم:«قال
الله تعالى: أنا ثالث الشريكين» أي: معهما بالحفظ والرعاية والإمداد
وإنزال البركة في تجارتهما؛ «
ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا
خانه؛ خرجت من بينهما»
أي: نزعت البركة من تجارتهما، ففي الحديث مشروعية الشركة والحث عليها مع عدم
الخيانة؛ لأن فيها التعاون، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
·
وينبغي اختيار من ماله من حلال للمشاركة، وتجنب من ماله من الحرام أو من المختلط
بالحلال والحرام.
·
وتجوز مشاركة المسلم للكافر بشرط أن لا ينفرد الكافر بالتصرف، بل يكون بإشراف
المسلم؛ لئلا يتعامل الكافر بالربا أو المحرمات إذا انفرد عن إشراف المسلم.
* والشركة تنقسم إلى قسمين: شركة أملاك وشركة عقود.
- فشركة الأملاك هي اشتراك في استحقاق، كالاشتراك في تملك عقار أو تملك مصنع أو
تملك سيارات أو غير ذلك.
- وشركة العقود هي الاشتراك في التصرف، كالاشتراك في البيع أو الشراء أو التأجير أو
غير ذلك، وهي إما اشتراك في مال وعمل أو اشتراك في عمل بدون مال،
وهي خمسة أنواع:
النوع الأول: أن يكون الاشتراك في المال والعمل، وهذا النوع يسمى شركة العنان.
النوع الثاني: اشتراك في مال من جانب وعمل من جانب آخر، وهذا ما يسمى بالمضاربة.
النوع الثالث: اشتراك في التحمل بالذمم دون مال، وهذا ما يسمى بشركة الوجوه.
النوع الرابع: اشتراك فيما يكسبان بأبدانهما، وهذا ما يسمى بشركة الأبدان.
النوع الخامس: اشتراك في كل ما تقدم، بأن يفوض أحدهما إلى الآخر كل تصرف مالي
وبدني، فيشمل شركة العنان والمضاربة والوجوه والأبدان، ويسمى هذا النوع بشركة
المفاوضة.
هذا مجمل أنواع الشركات،
ولنبينها بالتفصيل واحدة واحدة؛ لداعي الحاجة إلى بيانها، فنقول:
باب في أحكام شركة العنان
·
وهي بكسر العين، سميت بذلك لتساوي الشريكين في المال والتصرف؛ كالفارسين إذا سويا
بين فرسيهما وتساويا في السير فكان عنانا فرسيهما سواء، وذلك أن كل واحد من
الشريكين يساوى الآخر في تقديمه ماله وعمله في الشركة.
فحقيقة شركة العنان أن يشترك شخصان فأكثر بماليهما، بحيث يصيران مالا واحدا يعملان
فيه بيديهما، أو يعمل فيه أحدهما ويكون له من الربح أكثر من نصيب الآخر.
·
وشركة العنان بهذا الاعتبار المذكور جائزة بالإجماع؛ كما حكاه ابن المنذر رحمه
الله، وإنما اختلف في بعض شروطها.
* وينفذ تصرف كل من الشريكين في
مال الشركة بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه؛ لأن لفظ الشركة يغني عن
الإذن من كل منهما للآخر.
·
واتفقوا على أنه يجوز أن يكون رأس مال الشركة من النقدين المضروبين؛ لأن الناس
يشتركون بهما من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير.
واختلفوا في كون رأس المال في شركة العنان من العروض، فقال بعضهم: لا يجوز؛ لأن
قيمة أحد المالين قد تزيد قبل بيعه ولا تزيد قيمة المال الآخر، فيشارك أحدهما الآخر
في نماء ماله.
والقول الثاني جواز ذلك، وهو الصحيح، لأن مقصود الشركة
تصرفهما في المالين جميعا، وكون ربح المالين بينهما؛ وهو حاصل في العروض كحصوله في
النقود.
* ويشترط لصحة شركة العنان أن يشترطا لكل من الشريكين جزءا من
الربح مشاعا معلوما كالثلث والربع؛ لأن الربح مشترك بينهما؛ فلا يتميز نصيب كل
منهما إلا بالاشتراط والتحديد، فلو كان نصيب كل منهما من الربح مجهولا، أو شرط
لأحدهما ربح شيء معين من المال، أو ربح وقت معين، أو ربح سفرة معينة؛ لم يصح في
جميع هذه الصور؛ لأنه قد يربح المعين وحده، وقد لا يربح، وقد لا يحصل غير الدراهم
المعينة، وذلك يفضي إلى النزاع وضياع تعب أحدهما دون الآخر، وذلك مما تنهى عنه
الشريعة السمحة؛ لأنها جاءت بدقع الغرر والضرر.
باب في أحكام شركة المضاربة
* شركة المضاربة سميت بذلك أخذا من الضرب في الأرض، وهو السفر للتجارة، قال الله
تعالى:
﴿وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾
أي: يطلبون رزق الله في المتاجر والمكاسب، ومعنى المضاربة شرعا: دفع مال معلوم لمن
يتجر به ببعض ربحه.
* وهذا النوع من التعامل جائز
بالإجماع، وكان موجودا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره، وروي عن عمر وعثمان
وعلي وابن مسعود وغيرهم، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عن الجميع،
والحكمة تقتضي جواز المضاربة بالمال؛ لأن الناس بحاجة إليها؛ لأن الدراهم والدنانير
لا تنمو إلا بالتقليب والتجارة.
قال العلامة ابن القيم:
المضارب أمين وأجير ووكيل وشريك، فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وأجير
فيما يباشره بنفسه من العمل، وشريك إذا ظهر فيه الربح، ويشترط لصحة المضاربة تقدير
نصيب العامل؛ لأنه يستحقه بالشرط . وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للعامل
أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوما
جزءا من أجزاء، فلو سمى له كل الربح أو دراهم معلومة أو جزءا مجهولا؛ فسدت انتهى.
* وتعيين مقدار نصيب العامل من
الربح يرجع إليهما: فلو قال رب المال للعامل: اتجر به والربح بيننا؛ صار لكل منهما
نصف الربح؛ لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة لا مرجح لأحدهما على الآخر فيها، فاقتضى
ذلك التسوية في الاستحقاق، كما لو قال: هذه الدار بيني وبينك؛ فإنها تكون بينهما
نصفين، وإن قال رب المال للعامل: اتجر به ولي ثلاثة أرباع ربحه أو ثلثه، أو قال له:
اتجر به ولك ثلاثة أرباع ربحه أو ثلثه صح ذلك؛ لأنه متى علم نصيب أحدهما؛ أخذه،
والباقي للآخر؛ لأن الربح مستحق لهما، فإذا قدر نصيب أحدا منه؛ فالباقي للآخر
بمفهوم اللفظ، وإن اختلفا لمن الجزء المشروط؛ فهو للعامل، قليلا كان أو كثيرا؛ لأنه
يستحقه بالعمل، وهو يقل ويكثر؛ فقد يشترط له جزء قليل لسهولة العمل، وقد يشترط له
جزء كثير لصعوبة العمل، وقد يختلف التقدير لاختلاف العاملين في الحذق وعدمه، وإنما
تقدر حصة العامل بالشرط؛ بخلاف رب المال؛ فإنه يستحقه بماله لا بالشرط.
* وإذا فسدت المضاربة فربحها
يكون لرب المال؛ لأنه نماء ماله، ويكون للعامل أجرة مثله؛ لأنه إنما يستحق بالشرط،
وقد فسد الشرط تبعا لفساد المضاربة.
* وتصح المضاربة مؤقتة بوقت
محدد بأن يقول رب المال: ضاربتك على هذه الدراهم لمدة سنة.
وتصح المضاربة معلقة بشرط؛ كأن
يقول صاحب المال: إذا جاء شهر كذا؛ فضارب بهذا المال، أو يقول: إذا قبضت مالي من
زيد؛ فهو معك مضاربة؛ لأن المضاربة إذن في التصرف، فيجوز تعليقه على شرط مستقبل.
* ولا يجوز للعامل أن يأخذ
مضاربة من شخص آخر إذا كان ذلك يضر بالمضارب الأول إلا بإذنه ، وذلك كأن يكون المال
الثاني كثيرا يستوعب وقت العامل فيشغله عن التجارة بمال الأول، أو يكون مال المضارب
الأول كثيرا يستوعب وقته ومتى اشتغل عنه بغيره تعطلت بعض تصرفاته فيه، فإن أذن
الأول، أو لم يكن عليه ضرر؛ جاز للعامل أن يضارب لآخر.
وإن ضارب العامل لآخر مع ضرر
الأول بدون إذنه؛ فإن العامل يرد حصته من ربحه في مضاربته مع الثاني في شركته مع
المضارب الأول، فيدفع لرب المضاربة الثانية نصيبه من الربح، ويؤخذ نصيب العامل،
ويضم لربح المضاربة الأولى، ويقسم بينه وبين صاحبها على ما شرطاه؛ لأن منفعة العامل
المبذولة في المضاربة الثانية قد استحقت في المضاربة الأولى.
* ولا ينفق العامل من مال
المضاربة لا لسفر ولا لغيره؛ إلا إذا اشترط على صاحب المال ذلك؛ لأنه يعمل في المال
بجزء من ربحه؛ فلا يستحق زيادة عليه إلا بشرط؛ إلا أن يكون هناك عادة في مثل هذا
فيعمل بها.
* ولا يقسم الربح في المضاربة
قبل إنهاء العقد بينهما إلا بتراضيهما؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، ولا يؤمن أن
يقع خسارة في بعض المعاملة، فتجبر من الربح، وإذا قسم الربح مع بقاء عقد المضاربة؛
لم يبق رصيد يجبر منه الخسران؛ فالربح وقاية لرأس المال، لا يستحق العامل منه شيئا
إلا بعد كمال رأس المال.
* والعامل أمين يجب عليه أن
يتقي الله فيما ولي عليه، ويقبل قوله فيما يدعيه من تلف أو خسران، ويصدق فيما يذكر
أنه اشتراه لنفسه لا للمضاربة أو اشتراه للمضاربة لا لنفسه؛ لأنه مؤتمن على ذلك،
والله أعلم.