صفحة جديدة 12
باب في شركات الوجوه والأبدان والمفاوضة
أولا: شركة الوجوه:
* شركة الوجوه هي أن يشترك
اثنان فأكثر فيما يشتريان بذمتيهما، وما ربحا فهو بينهما على ما شرطاه، سميت بذلك
لأنها ليس لها رأس مال، وإنما تبذل فيها الذمم والجاه وثقة التجار بهما، فيشتريان
ويبيعان بذلك، ويقتسمان ما يحصل لهما من ربح على حسب الشرط؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم: «المسلمون
على شروطهم»..
وهذا النوع من الشركة يشبه
شركة العنان، فأعطي حكمها.
* وكل واحد من الشريكين وكيل عن صاحبه وكفيل عنه بالثمن؛ لأن مثل هذا النوع من
الشركة على الوكالة والكفالة.
* ومقدار ما يملكه كل واحد منهما من هذه الشركة على حسب الشرط، من مناصفة، أو أقل،
أو أكثر. ويتحمل كل واحد من الخسارة على قدر ما يملك في الشركة، فمن له نصف الشركة؛
فعليه نصف الخسارة... وكذا. ويستحق كل من الشركاء من الربح على حسب الشرط من نصف أو
ربع أو ثلث؛ لأن أحدهما قد يكون أوثق وأرغب عند التجار وأبصر بطرق التجارة من الشخص
الآخر، ولأن عمل كل منهما قد يختلف عن عمل الآخر، فيتطلع إلى زيادة نصيبه في مقابل
ذلك، فيرجع إلى الشرط الجاري بينهما في ذلك.
* و لكل واحد من الشركاء في
شركة الوجوه من الصلاحيات مثل ما للشركاء في شركة العنان
ثانيا: شركة الأبدان
* شركة الأبدان هي أن يشترك اثنان فأكثر فيما يكتسبان بأبدانهما، سميت بذلك لأن
الشركاء بذلوا أبدانهم في الأعمال لتحصيل المكاسب، واشتركوا فيما يحصلون عليه من
كسب.
* ودليل جواز هذا النوع من الشركة ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن مسعود
رضي الله عنه؛ قال:
اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار
بشيء قال أحمد: أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، فدل هذا
الحديث على صحة الشركة في مكاسب الأبدان .
* وإذا تم الاتفاق بينهم على ذلك؛ فما تقبله أحدهم من عمل؛ لزم بقية الشركاء فعله،
فيطالب كل واحد بما تقبله شريكه من أعمال؛ لأن هذا هو مقتضاها.
* وتصح شركة الأبدان ولو اختلفت
صنائع المشتركين؛ كخياط مع حداد... وهكذا، ولكل واحد من الشركاء أن يطالب بأجرة
العمل الذي تقبله هو أو صاحبه، ويجوز للمستأجر من أحدهم دفع الأجرة إلى أي منهم؛
لأن كل واحد منهم كالوكيل عن الآخر، فما يحصل لهم من العمل أو الأجرة؛ فهو مشترك
بينهم.
* وتصح شركة الأبدان في تملك المباحات كالاحتطاب، وجمع الثمار المأخوذة من الجبال،
واستخراج المعادن.
* وإن مرض أحد شركاء الأبدان؛ فالكسب الذي تحصل عليه الآخر بينهما؛ لأن سعدا وعمارا
وابن مسعود اشتركوا، فجاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران، وشرك بينهم النبي صلى الله
عليه وسلم. وإن طالب الصحيح المريض بأن يقيم مقامه من يعمل؛ لزمه ذلك؛ لأنهما دخلا
على أن يعملا، فإذا تعذر على أحدهما العمل بنفسه؛ لزمه أن يقيم مقامه من يعمل بدلا
عنه، لتوفية العقد حقه، فإن امتنع العاجز عن العمل من إقامة من يعمل بدله بعد
مطالبته بذلك؛ فلشريكه أن يفسخ عقد الشركة.
* وإن اشترك أصحاب دواب أو
سيارات على أن يحملوا عليها بالأجرة، وما حصلوا عليه فهو بينهم صح ذلك؛ لأنه نوع من
الاكتساب، ويصح أيضا دفع دابة أو سيارة لمن يعمل عليها، وما تحصل من كسب؛ فهو
بينهما، وإن اشترك ثلاثة من أحدهم دابة ومن الآخر آلة ومن الثالث العمل على أن ما
تحصل فهو بينهم؛ صح ذلك.
وتصح شركة الدلالين بينهم إذا
كانوا يقومون بالنداء على بيع السلع وعرضها وإحضار الزبون، وما تحصل؛ فهو بينهم
ثالثا: شركة المفاوضة
·
وشركة المفاوضة هي أن يفوض كل من الشركاء إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع
الشركة؛ فهي الجمع بين شركة العنان والمضاربة والوجوه والأبدان، أو يشتركون في كل
ما يثبت لهم وعليهم.
·
ويصح هذا النوع من الشركة؛ لأنه يجمع أنواعا يصح كل منها منفردا فيصح إذا جمع مع
غيره.
·
والربح يوزع في هذه الشركة على ما شرطوا، ويتحملون من الخسارة على قدر ملك كل واحد
منهم من الشركة بالحساب. وهكذا شريعة الإسلام وسعت دائرة الاكتساب في حدود المباح،
فأباحت للإنسان أن يكتسب منفردا ومشتركا مع غيره، وعاملت الناس حسب شروطهم ما لم
تكن شروطا جائرة محرمة؛ مما به يعلم صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان.
نسأل الله أن يرزقنا التمسك بها والسير على نهجها؛ إنه سميع
مجيب.
كتاب المزارعة والمساقاة والإجارة
باب في أحكام المزارعة والمساقاة
بسم الله الرحمن الرحيم
* المساقاة والمزارعة من جملة
الأعمال التي يزاولها الناس من قديم الزمان؛ لحاجتهم إليهما، فقد يكون في ملك
الإنسان شجر لا يستطيع القيام عليه واستثماره، أو تكون له أرض زراعية لا يستطيع
العمل عليها واستغلالها، وعند آخر القدرة على العمل وليس في ملكه شجر ولا أرض، ومن
ثم أبيحت المزارعة والمساقاة لمصلحة الطرفين، وهكذا كل التعامل الشرعي قائم على
العدل وتحقيق المصالح ودفع المفاسد.
*
فالمساقاة عرفها الفقهاء:
بأنها دفع شجر مغروس أو شجر غير مغروس مع أرض إلى من يغرسه فيها ويقوم بسقيه وما
يحتاج إليه حتى يثمر، ويكون للعامل جزء مشاع من ثمر ذلك الشجر والباقي لمالكه. و
المزارعة: دفع أرض لمن يزرعها، أو دفع أرض وحب لمن يزرعه فيها ويقوم عليه، بجزء
مشاع منه، والباقي لمالك الأرض وقد يكون الجزء المشروط في المساقاة والمزارعة لمالك
الأرض أو الشجر والباقي للعامل.
* والدليل على جواز المساقاة
والمزارعة حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم
«عامل
أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» متفق عليه، وروى مسلم: أن
النبي صلى الله عليه وسلم «دفع
إلى يهود خيبر نخلها وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها» أي: نصفه، وروى الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم
«دفع
إلى أهل خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف» فدل هذا الحديث على صحة
المساقاة قال الإمام ابن القيم: وفي قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة
بجزء من الغلة من ثمر أو زرع؛ فإنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر، واستمر على
ذلك إلى حين وفاته، ولم ينسخ ألبتة، واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه، وليس من باب
المؤاجرة، بل من باب المشاركة، وهو نظير المضاربة سواء انتهى.
وقال الموفق بن قدامة: وهذا عمل به الخلفاء الراشدون مدة خلافتهم، واشتهر ذلك، فلم ينكر،
فكان إجماعا، قال: ولا يجوز التعويل على ما خالف الحديث والإجماع، وكثير من أهل
النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه ولا يمكنهم الاستئجار عليه، وكثير من الناس
لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر؛ ففي تجويزها دفع الحاجتين وتحصيل لمصلحة الفئتين
انتهى.
* وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله
أنه يشترط لصحة المساقاة أن يكون الشجر المساقى عليه له ثمر يؤكل فلا يصح على شجر
لا ثمر له، أو له ثمر لا يؤكل؛ لأن ذلك غير منصوص عليه.
* ومن شروط صحة المساقاة تقدير نصيب العامل أو المالك بجزء معلوم مشاع من الثمرة؛
كالثلث والربع، سواء قل الجزء المشروط أو كثر، فلو شرطا كل الثمرة لأحدهما؛ لم يصح؛
لاختصاص أحدهما بالغلة، أو شرطا آصعا معلومة من الثمرة؛ كعشرة آصع، أو عشرين صاعا؛
لم تصح؛ لأنه قد لا يحصل إلا ذلك، فيختص به من شرط له دون الآخر، وكذا لو شرط له
في المساقاة دراهم معينة؛ لم تصح؛ لأنه قد لا يحصل من الغلة ما يساويها، وكذا لو
شرط لأحدهما ثمرة شجرة معينة أو أشجار معينة؛ لم تصح المساقاة؛ لأنه قد لا يحصل من
الشجر غير تلك المعينة، فيختص بالغلة أحدهما دون الآخر، أو لا تحمل تلك الشجرة أو
الأشجار المعينة، فينحرم الشروط له من الغلة، ويحصل الغرر والضرر.
* والصحيح الذي عليه الجمهور أن
المساقاة عقد لازم لا يجوز فسخها إلا برضى الآخر * لا بد من تحديد مدتها، ولو طالت،
مع بقاء الشجر.
* ويلزم العامل كل ما فيه صلاح
الثمرة؛ من حرث، وسقي، وإزالة ما يضر الشجر والثمرة من الأغصان، وتلقيح النخل،
وتجفيف الثمر، وإصلاح مجاري الماء، وتوزيعه على الشجر.
* وعلى صاحب الشجر ما يحفظ الأصل - وهو الشجر -؛ كحفر البئر، وبناء الحيطان، وتوفير
الماء في البئر... ونحو ذلك، وعلى المالك كذلك تحصيل المواد التي تقوي الأشجار
كالسماد ونحوه. وليس دفع الحب مع الأرض شرطا في صحة المزارعة، فلو دفع إليه الأرض
فقط ليزرعها العامل ببذر من عنده؛ صح ذلك؛ كما هو قول جماعة من الصحابة، وعليه عمل
الناس، ولأن الدليل الذي استفيد منه حكم المزارعة هو حديث معاملة النبي صلى الله
عليه وسلم لأهل خيبر بشطر ما يخرج منها، ولم يرد في هذا الحديث أن البذر على
المسلمين.
قال الإمام ابن القيم رحمه
الله: والذين اشترطوا البذر من رب الأرض قاسوها على المضاربة، وهذا القياس مع أنه
مخالف للسنة الصحيحة وأقوال الصحابة، فهو من أفسد القياس؛ فإن المال في المضاربة
يرجع إلى صاحبه، ويقسمان الربح؛ فهذا نظير الأرض في المزارعة، وأما البذر الذي لا
يعود نظيره إلى صاحبه، بل يذهب كما يذهب نفع الأرض؛ فإلحاقه بالأصل الذاهب أولى من
إلحاقه بالأصل الباقي. انتهى.
والمزارعة مشتقة من الزرع،
وتسمى مخابرة ومواكرة، والعامل فيها يسمى مزارعا ومخابرا ومواكرا.
* والدليل على جوازها السنة المطهرة الصحيحة كما سبق، والحاجة داعية إلى جوازها؛
لأن من الناس من يملك أرضا زراعية ولا يستطيع العمل فيها، ومن الناس من يستطيع
العمل في الزراعة ولا يملك أرضا زراعية؛ فاقتضت الحكمة التشريعية جواز المزارعة
لينتفع الطرفان: هذا بأرضه، وهذا بعمله، وليحصل التعاون على تحصيل المصلحة ودفع
المضرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
يرحمه الله: المزارعة أصل من الإجارة،
لاشتراكهما في المغنم والمغرم.
وقال الإمام ابن القيم رحمه
الله: هي أبعد عن الظلم والضرر من الإجارة؛ فإن
أحدهما غانم ولا بد (يعني: في الإجارة)،
وأما المزارعة؛ فإن حصل الزرع، اشتركا فيه، وإلا اشتركا في الحرمان .
* ويشترط لصحة المزارعة بيان
مقدار ما للعامل أو لصاحب الأرض من الغلة وأن يكون جزءا مشاعا منها؛ كثلث ما يخرج
من الأرض أو ربعه ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما
يخرج منها، وإذا عرف نصيب أحدهما؛ فالباقي يكون للآخر؛ لأن الغلة لهما، فإذا عين
نصيب أحدهما؛ تبين نصيب الآخر، ولو شرط لأحدهما آصعا معلومة كعشرة آصع أو زرع ناحية
معينة من الأرض والباقي للآخر؛ لم تصح، أو اشترط صاحب الأرض أن يأخذ مثل بذره
ويقتسمان الباقي، لم تصح المزارعة؛ لأنه قد لا يخرج من الأرض إلا ذلك، فيختص به دون
الآخر، ولحديث رافع بن خديج رضي الله عنه، قال: « كراء الأرض بالذهب والفضة لا بأس به، كان الناس يؤاجرون على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزرع،
فيهلك هذا ويسلم هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا؛ فلذلك زجر عنه» يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما فيه من الضرر المؤدي إلى
التشاجر وأكل أموال الناس بالباطل، فدل الحديث على تحريم المزارعة على ما يفضي إلى
الضرر والجهالة ويوجب المشاجرة بين الناس.
قال ابن المنذر: قد جاءت
الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل، وهي التي كانوا يعتادونها،
قال: «كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما
أخرجت هذه ولم تخرج هذه» انتهى.