صفحة جديدة 10
باب في أحكام الحجر
* إن الإسلام جاء لحفظ الأموال وحفظ حقوق الناس، ولذلك شرع الحجر على من يستحقه،
حفاظا على أموال الناس وحقوقهم.
* والحجر لغة المنع، ومنه سمي الحرام حجرا؛ لأنه ممنوع منه، قال تعالى:﴿وَيَقُولُونَ
حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ أي: حراما محرما،
وسمي أيضا العقل حجرا، قال تعالى:﴿هَلْ
فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ أي:
عقل، لأن العقل يمنع صاحبه من تعاطي ما يقبح وتضر عاقبته.
* ومعنى الحجر في الشرع: منع إنسان من تصرفه في ماله.
* ودليله من القرآن الكريم: قوله تعالى:﴿وَلَا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾
إلى قوله تعالى:﴿وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾
فدلت الآيتان على الحجر على السفيه واليتيم في ماله؛ لئلا يفسده ويضيعه، وأنه لا
يدفع إليه إلا بعد تحقق رشده فيه. وقد حجر النبي صلى الله عليه وسلم على بعض
الصحابة لأجل قضاء ما عليه من الديون.
* والحجر نوعان:
النوع الأول: حجر على الإنسان لأجل حظ غيره، كالحجر على المفلس لحظ الغرماء،
والحجر على المريض بالوصية بما زاد على الثلث لحظ الورثة.
النوع الثاني: حجر على الإنسان لأجل مصلحته هو؛ لئلا يضيع ماله ويفسده، كالحجر
على الصغير والسفيه والمجنون؛ بدليل قوله تعالى:
﴿وَلَا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾
قيل: المراد الأولاد والنساء، فلا يعطيهم ماله تبذيرا، وقيل: المراد السفهاء
والصغار والمجانين، لا يعطون أموالهم؛ لئلا يفسدوها، وأضافها إلى المخاطبين؛ لأنهم
الناظرون عليها والحافظون لها.
*
النوع الأول: الحجر على الإنسان لحظ
غيره والمراد هنا الحجر على المفلس، والمفلس هو من عليه دين حال لا يتسع له ماله
الموجود، فيمنع من التصرف في ماله؛ لئلا يضر بأصحاب الديون. أما المدين المعسر الذي
لا يقدر على وفاء شيء من دينه؛ فإنه لا يطالب به، ويجب إنظاره؛ لقوله تعالى:
﴿وَإِنْ
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾
وفي فضل إنظار المعسر يقول
النبي صلى الله عليه وسلم:«من
سره أن يظله الله في ظله، فلييسر على معسر» وأفضل من الإنظار إبراء
المعسر من دينه، لقوله تعالى:
﴿وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أما من له
قدرة على وفاء دينه؛ فإنه لا يجوز الحجر عليه، لعدم الحاجة إلى ذلك، لكن يؤمر بوفاء
ديونه إذا طالب الغرماء بذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«مطل
الغني ظلم» أي: مطل القادر على وفاء دينه ظلم؛ لأنه منع أداء ما وجب
عليه أداؤه من حقوق الناس، فإن امتنع من تسديد ديونه؛ فإنه يسجن. قال الشيخ تقي
الدين ابن تيمية رحمه الله: ومن كان قادرا على وفاء دينه، وامتنع، أجبر على وفائه
بالضرب والحبس، نص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، قال: ولا
أعلم فيه نزاعا انتهى.
وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم: «لي
الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته»رواه
أحمد وأبو داود وغيرهما، وعرضه: شكواه، وعقوبته: حبسه؛ فالمماطل بقضاء ما عليه من
الحق يستحق العقوبة بالحبس والتعزير، ويكرر عليه ذلك حتى يوفي ما عليه، فإن أصر على
المماطلة، فإن الحاكم يتدخل فيبيع ماله ويسدد منه ديونه، لأن الحاكم يقوم مقام
الممتنع، ولأجل إزالة الضرر عن الدائنين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا
ضرر ولا ضرار».
ومما مر يتضح أن المدين له
حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون الدين مؤجلا عليه؛ فهذا لا يطالب بالدين حتى يحل، ولا
يلزمه أداؤه قبل حلوله، وإذا كان ما لديه من الحال أقل مما عليه من الدين المؤجل؛
فإنه لا يحجر عليه من أجل ذلك، ولا يمنع من التصرف في ماله.
الحالة الثانية: أن يكون الدين حالا
فللمدين حينئذ حالتان:
الأولى: أن يكون ماله أكثر من الدين الذي عليه؛ فهذا لا يحجر عليه في ماله،
ولكن يؤمر بوفاء الدين إذا طالب بذلك دائنه، فإن امتنع؛ حبس وعزر حتى يوفي دينه،
فإن صبر على الحبس والتعزير، وامتنع من تسديد الدين، فإن الحاكم يتدخل ويوفي دينه
من ماله ويبيع ما يحتاج إلى بيع من أجل ذلك.
والثانية: أن يكون ماله أقل مما عليه من الدين الحالِّ؛ فهذا يُحجر عليه
التصرف في ماله إذا طالب غرماؤه بذلك؛ لئلا يضر بهم؛ لحديث كعب بن مالك رضي الله
عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على
معاذ وباع ماله»رواه الدارقطني والحاكم وصححه،
وقال ابن الصلاح: إنه حديث ثابت ، وإذا حجر عليه في هذه الحالة، فإنه يعلن عنه،
ويظهر للناس أنه محجور عليه؛ لئلا يغتروا به ويتعاملوا معه، فتضيع أموالهم .
ويتعلق بالحجر عليه أربعة
أحكام:
الحكم الأول: أنه يتعلق حق الغرماء
بماله الموجود قبل الحجر، وبماله الحادث بعد الحجر؛ بإرث أو أرش جناية أو هبة أو
وصية أو غير ذلك، فيلحقه الحجر كالموجود قبل الحجر، فلا ينفذ تصرف المحجور عليه في
ماله بعد الحجر بأي نوع من أنواع التصرف، ولا يصح إقراره لأحد على شيء من ماله،
لأن حقوق الغرماء متعلقة بأعيانه، فلم يقبل الإقرار عليه، وحتى قبل الحجر عليه يحرم
عليه التصرف في ماله تصرفا يضر بغرمائه.
قال الإمام ابن القيم رحمه
الله: إذا استغرقت الديون ماله، لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون، سواء حجر
عليه الحاكم أو لم يحجر عليه، هذا مذهب مالك واختيار شيخنا (يريد شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله) ، قال: وهو الصحيح، وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره، بل هو
مقتضى أصول الشرع وقواعده، لأن حق الغرماء قد تعلق بماله، ولهذا يحجر عليه الحاكم،
ولولا تعلق حق الغرماء بماله، لم يسع الحاكم الحجر عليه، فصار كالمريض مرض الموت،
وفي تمكين هذا المدين من التبرع إبطال حقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا؛
فإنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق، وسد الطريق المفضية إلى إضاعتها
انتهى كلامه رحمه الله.
الحكم الثاني:
أن من وجد عين ماله الذي باعه عليه أو أقرضه إياه أو أجره إياه قبل الحجر عليه؛ فله
أن يرجع به ويسحبه من عند المفلس
, لقوله صلى الله عليه وسلم:
«من
أدرك متاعه عند إنسان أفلس، فهو أحق به» متفق عليه؛ وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يشترط لرجوع من وجد ماله عند المفلس المحجور عليه ستة شروط:
الشرط الأول: كون المفلس حيا إلى أن يأخذ ماله منه؛ لما رواه أبو داود؛ أنه صلى
الله عليه وسلم قال: «فإن
مات؛ فصاحب المتاع أسوة الغرماء»
الشرط الثاني: بقاء ثمنها كله في ذمة المفلس، فإن قبض صاحب المتاع شيئا من ثمنه،
لم يستحق الرجوع به.
الشرط الثالث: بقاء العين كلها في ملك المفلس، فإن وجد بعضها فقط؛ لم يرجع به؛
لأنه لم يجد عين ماله، وإنما وجد بعضها.
الشرط الرابع: كون السلعة بحالها، لم يتغير شيء من صفاتها.
الشرط الخامس: كون السلعة لم يتعلق بها حق الغير؛ بأن لا يكون المفلس قد رهنها
ونحو ذلك.
الشرط السادس: كون السلعة لم تزد زيادة متصلة كالسمن، فإذا توافرت هذه الشروط،
جاز لصاحب السلعة أن يسحبها إذا ظهر إفلاس من هي عنده، للحديث السابق.
الحكم الثالث: انقطاع المطالبة عنه بعد الحجر عليه إلى أن ينفك عنه الحجر، فمن
باعه أو أقرضه شيئا خلال هذه الفترة، طالبه به بعد فك الحجر عنه.
الحكم الرابع: أن الحاكم يبيع ما له، ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه الحالة؛ لأن
هذا هو المقصود من الحجر عليه، وفي تأخير ذلك مطل وظلم لهم، ويترك الحاكم للمفلس ما
يحتاج إليه من مسكن ومؤنة ونحو ذلك، أما الدين المؤجل؛ فلا يحل بالإفلاس، ولا يزاحم
الديون الحالة، لأن الأجل حق للمفلس؛ فلا يسقط؛ كسائر حقوقه، ويبقى في ذمة المفلس،
ثم بعد توزيع ماله على أصحاب الديون الحالة، فإن سددها ولم يبق منها شيء؛ انفك عنه
الحجر بلا حكم حاكم؛ لزوال موجبه، وإن بقي عليه شيء من ديونه الحالة؛ فإنه لا ينفك
عنه الحجر؛ إلا بحكم الحاكم؛ لأنه هو الذي حكم بالحجر عليه، فهو الذي يحكم بفك
الحجر عنه.