صفحة جديدة 9
باب في أحكام صلاة الاستسقاء
الاستسقاء هنا هو طلب السقي من
الله تعالى؛ فالنفوس مجبولة على الطلب ممن يغيثها، وهو الله وحده، وكان ذلك معروفا
في الأمم الماضية، وهو من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى:
﴿وَإِذِ
اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ واستسقى
خاتم الأنبياء نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لأمته مرات متعددة وعلى كيفيات
متنوعة، وأجمع المسلمون على مشروعيته.
ويشرع الاستسقاء إذا أجدبت
الأرض - أي: أمحلت - وانحبس المطر وأضر ذلك بهم؛ فلا مناص لهم أن يتضرعوا إلى ربهم
ويستسقوه ويستغيثوه بأنواع من التضرع: تارة بالصلاة جماعة أو فرادى، وتارة بالدعاء
في خطبة الجمعة، يدعو الخطيب والمسلمون يؤمنون على دعائه، وتارة بالدعاء عقب
الصلوات وفي الخلوات بلا صلاة ولا خطبة؛ فكل ذلك وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحكم صلاة الاستسقاء أنها سنة
مؤكدة؛ لقول «عبد
الله بن زيد: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو وحول
رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» متفق عليه، ولغيره من الأحاديث.
و صفة صلاة الاستسقاء في موضعها
وأحكامها كصلاة العيد؛ فيستحب فعلها في المصلى كصلاة العيد، وأحكامها كأحكام صلاة
العيد في عدد الركعات والجهر بالقراءة، وفي كونها تصلى قبل الخطبة، وفي التكبيرات
الزوائد في الركعة الأولى والثانية قبل القراءة؛ كما سبق بيانه في صلاة العيد.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
«صلى
النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد».
قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"،
وصححه الحاكم وغيره.
ويقرأ في الركعة الأولى بسورة:
﴿سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾
وفي الثانية بسورة الغاشية.
ويصليها أهل البلد في الصحراء،
لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا في الصحراء، ولأن ذلك أبلغ في إظهار الافتقار
إلى الله تعالى.
وإذا أراد الإمام الخروج لصلاة
الاستسقاء؛ فإنه ينبغي أن يتقدم ذلك تذكير الناس بما يلين قلوبهم من ذكر ثواب الله
وعقابه، ويأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، بردها إلى مستحقيها؛ لأن
المعاصي سبب لمنع القطر وانقطاع البركات، والتوبة والاستغفار سبب لإجابة الدعاء..
قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ﴾ ويأمرهم
بالصدقة على الفقراء والمساكين، لأن ذلك سبب للرحمة، ثم يعين لهم يوما يخرجون فيه
ليتهيئوا ويستعدوا لهذه المناسبة الكريمة بما يليق بها من الصفة المسنونة، ثم
يخرجون في الموعد إلى المصلى بتواضع وتذلل وإظهار للافتقار إلى الله تعالى..
«ولقول
ابن عباس رضي الله عنهما: خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللا متواضعا
متخشعا متضرعا»..قال
الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وينبغي أن لا يتأخر أحد من
المسلمين يستطيع الخروج، حتى الصبيان والنساء اللاتي لا تخشى الفتنة بخروجهن، فيصلي
بهم الإمام ركعتين كما سبق، ثم يخطب خطبة واحدة، وبعض العلماء يرى أنه يخطب خطبتين،
والأمر واسع، ولكن الاقتصار على خطبة واحدة أرجح من حيث الدليل، وكذلك كون الخطبة
بعد صلاة الاستسقاء هو أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم، واستمر عمل المسلمين عليه،
وورد أنه صلى الله عليه وسلم خطب قبل الصلاة، وقال به بعض العلماء، والأول أرجح،
والله أعلم.
وينبغي أن يكثر في خطبة
الاستسقاء من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به، لأن ذلك سبب لنزول
الغيث، ويكثر من الدعاء بطلب الغيث من الله تعالى، ويرفع يديه، لأن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يرفع يديه في دعائه بالاستسقاء، حتى يرى بياض إبطيه، ويصلي على النبي
صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك من أسباب الإجابة، ويدعو بالدعاء الوارد عن النبي صلى
الله عليه وسلم في هذا الموطن؛ اقتداء به..
قال الله تعالى:
﴿لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾.
ويسن أن يستقبل القبلة في آخر
الدعاء، ويحول رداءه؛ فيجعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين، وكذلك ما شابه
الرداء من اللباس كالعباءة ونحوها، لما في "الصحيحين"؛«أن
النبي صلى الله عليه وسلم حول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حول
رداءه...»
والحكمة في ذلك - والله أعلم - التفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه من الشدة إلى
الرخاء ونزول الغيث، ويحول الناس أرديتهم لما روى الإمام أحمد:
«وحول
الناس معه أرديتهم»..
ولأن ما ثبت في حق النبي صلى
الله عليه وسلم ثبت في حق أمته، ما لم يدل دليل على اختصاصه به، ثم إن سقى الله
المسلمين، وإلا؛ أعادوا الاستسقاء ثانيا وثالثا؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك.
وإذا نزل المطر يسن أن يقف في أوله ليصيبه منه ويقول: اللهم صيبا نافعا، ويقول:
مطرنا بفضل الله ورحمته.
وإذا زادت المياه وخيف منها
الضرر؛ سن أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام وبطون
الأودية ومنابت الشجر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، متفق عليه، والله
أعلم.
باب في أحكام الجنائز
إن شريعتنا - ولله الحمد -
كاملة شاملة لمصالح الإنسان في حياته وبعد مماته، ومن ذلك ما شرعه الله من أحكام
الجنائز، من حين الأرض والاحتضار إلى دفن الميت في قبره، من عيادة المريض، وتلقينه،
وتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، وما يتبع ذلك من قضاء ديونه، وتنفيذ
وصاياه، وتوزيع تركته، والولاية على أولاده الصغار.
قال الإمام ابن القيم رحمه
الله: "وكان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي، مخالفا لهدي سائر
الأمم، مشتملا على إقامة العبودية لله تعالى على أكمل الأحوال، وعلى الإحسان للميت
ومعاملته بما ينفعه قي قبره ويوم معاده، من عيادة، وتلقين، وتطهير، وتجهيز إلى الله
تعالى على أحسن الأحوال وأفضلها، فيقفون صفوفا على جنازته، يحمدون الله، ويثنون
عليه، ويصلون على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويسألون للميت المغفرة والرحمة
والتجاوز، ثم يقفون على قبره، يسألون له التثبيت، ثم زيارة قبره، والدعاء له، كما
يتعاهد الحي صاحبه في الدنيا، ثم الإحسان إلى أهل الميت وأقاربه وغير ذلك" ا هـ.
ويسن الإكثار من ذكر الموت
والاستعداد له بالتوبة من المعاصي ورد المظالم إلى أصحابها، والمبادرة بالأعمال
الصالحة قبل هجوم الموت على غرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«أكثروا
من ذكر هاذم اللذات» رواه الخمسة بأسانيد
صحيحة، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وهاذم اللذات: بالذال: هو الموت.
وروى الترمذي وغيره عن ابن
مسعود مرفوعا:
«ستحيوا
من الله حق الحياء. قالوا: إنا نستحي يا نبي الله والحمد لله. قال: ليس كذلك، ولكن
من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر
الموت والبلى، ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك، فقد استحيا في الله
حق الحياء».
أولا: أحكام المريض والمحتضر
وإذا أصيب الإنسان بمرض، فعليه
أن يصبر ويحتسب ولا يجزع ويسخط لقضاء الله وقدره، ولا بأس أن يخبر الناس بعلته ونوع
مرضه، مع الرضى بقضاء الله، والشكوى إلى الله تعالى، وطلب الشفاء منه لا ينافي
الصبر، بل ذلك مطلوب شرعا ومستحب، فأيوب عليه السلام نادى ربه وقال:
﴿أَنِّي
مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾..
وكذلك لا بأس بالتداوي بالأدوية
المباحة بل ذهب بعض العلماء إلى تأكد ذلك، حتى قارب به الوجوب، فقد جاءت الأحاديث
بإثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل. كما لا ينافيه
دفع الجوع والعطش بالطعام والشراب.
ولا يجوز التداوي بمحرم، لما في
الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال:
«إن
الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»
وروى أبو داود..
وغيره عن أبي هريرة مرفوعا:
«إن
الله أنزل الدواء، وأنزل الداء، وجعل لكل داء دواء، ولا تداووا بحرام»..
وفي
"صحيح مسلم"
«أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخمر: إنه ليس بدواء ولكنه داء».
وكذلك يحرم التداوي بما يمس
العقيدة، من تعليق التمائم المشتملة على ألفاظ شركية أو أسماء مجهولة أو طلاسم أو
خرز أو خيوط أو قلائد أو حلق تلبس على العضد أو الذراع أو غيره، يعتقد فيها الشفاء
ودفع العين والبلاء، لما فيها من تعلق القلب على غير الله في جلب نفع أو دفع ضر،
وذلك كله من الشرك أو من وسائله الموصلة إليه، ومن ذلك أيضا التداوي عند المشعوذين
من الكهان والمنجمين والسحرة والمستخدمين للجن فعقيدة المسلم أهم عنده من صحته.
وقد جعل الله الشفاء في
المباحات النافعة للبدن والعقل والدين، وعلى رأس ذلك القرآن الكريم والرقية به
وبالأدعية المشروعة.
قال ابن القيم: "ومن أعظم
العلاج فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع إلى الله والتوبة، وتأثيره أعظم
من الأدوية، لكن بحسب استعداد النفس وقبولها". انتهى.
ولا بأس بالتداوي بالأدوية المباحة على أيدي الأطباء العارفين بتشخيص الأمراض
وعلاجها في المستشفيات وغيرها.
وتسن عيادة المرضى، لما في
"الصحيحين" وغيرهما:
«خمس
تجب للمسلم على أخيه، وذكر منها عيادة المريض» فإذا زاره، سأل عن حاله، فقد
«كان النبي يدنو من المريض، ويسأله عن حاله»
وتكون الزيارة يوما بعد يوم، أو بعد يومين، ما لم يكن المريض يرغب الزيارة كل يوم،
ولا يطيل الجلوس عنده، إلا إذا كان المريض يرغب ذلك..
ويقول للمريض: "لا بأس عليك،
طهور إن شاء الله"، ويدخل عليه السرور، ويدعو له بالشفاء، ويرقيه بالقرآن، لا سيما
سورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين.
ويسن للمريض أن يوصي بشيء من
ماله في أعمال الخير، ويجب أن يوصي بماله وما عليه من الديون وما عنده من الودائع
والأمانات، وهذا مطلوب، حتى من الإنسان الصحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم:
«ما
حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» متفق عليه، وذكر الليلتين تأكيد لا تحديد، فلا ينبغي أن يمضي عليه
زمان، وإن كان قليلا، إلا ووصيته مكتوبة عنده، لأنه لا يدري متى يدركه الموت.
ويحسن المريض ظنه بالله، فإن
الله عز وجل يقول.
«أنا
عند ظن عبدي بي» ويتأكد ذلك عند إحساسه بلقاء الله.
ويحسن لمن يحضره تطميعه في رحمة
الله، ويغلب في هذه الحالة جانب الرجاء على جانب الخوف، وأما في حالة الصحة، فيكون
خوفه ورجاؤه متساويين، لأن من غلب عليه الخوف، أوقعه في نوع من اليأس، ومن غلب عليه
الرجاء، أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله.
فإذا احتضر المريض، فإنه يسن
لمن حضره أن يلقنه لا إله إلا الله، لقوله صلى الله عليه وسلم:
«لقنوا موتاكم لا إله إلا الله»
رواه مسلم، وذلك لأجل أن يموت على كلمة الإخلاص، فتكون ختام كلامه..
فعن معاذ مرفوعا:
«من
كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة»
ويكون تلقينه إياها برفق، ولا يكثر عليه، لئلا يضجره وهو في هذه الحال. ويسن أن
يوجه إلى القبلة، ويقرأ عنده سورة (يس)، لقوله صلى الله عليه وسلم:
«اقرءوا
على موتاكم سورة "يس"»
رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان،
والمراد بقوله: "موتاكم". من
حضرته الوفاة، أما من مات، فإنه لا يقرأ عليه، فالقراءة على الميت بعد موته بدعة،
بخلاف القراءة على الذي يحتضر، فإنها سنة، فالقراءة عند الجنازة أو على القبر أو
لروح الميت، كل هذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، والواجب على المسلم
العمل بالسنة وترك البدعة.