صفحة جديدة 7
207 - ومن ذلك أمره بطلب
الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إذا
سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله
عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد
الله وأرجوا أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم
القيامة».
208 - وفي صحيح البخاري عن جابر عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«من
قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً
الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف
الميعاد. حلت له شفاعتي يوم القيامة».
209 - فقد رغَّب المسلمين في أن يسألوا
الله له الوسيلة، وبيَّن أن من سألها له حلت له شفاعته يوم القيامة، كما أنه من صلى
عليه مرة صلى الله عليه عشرا، فإن الجزاء من جنس العمل.
210 - ومن هذا الباب الحديث الذي رواه أحمد
وأبوداود والترمذي وصححه، وابن ماجه أن عمر بن الخطاب استأذن النبي صلى الله عليه
وسلم في العمرة فأذن له ثم قال:
«ولا
تنسنا يا أخي من دعائك».
211 - فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من
عمر أن يدعو له كطلبه أن يصلي عليه ويسلم عليه وأن يسأل الله له الوسيلة والدرجة
الرفيعة، وهو كطلبه أن يعمل سائر الصالحات، فمقصوده نفع المطلوب منه والإحسان إليه.
وهو صلى الله عليه وسلم أيضاً ينتفع بتعليمهم الخير وأمرهم به، وينتفع أيضاً بالخير
الذي يفعلونه من الأعمال الصالحة ومن دعائهم له.
212 - ومن هذا الباب قول القائل: إني أكثر
الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال:
«ماشئت»
قال: الربع؟ قال:
«ماشئت، وإن زدت فهو خير لك»
قال: النصف؟ قال:
«ماشئت وإن زدت فهو خير لك»
قال: الثلثين؟ قال:
«ماشئت، وإذا زدت فهو خير لك»
قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: «إذًا تُكفى همك
ويُغفر لك ذنبك» رواه أحمد في مسنده والترمذي
وغيرهما.
213 - وقد بسط الكلام عليه في (جواب
المسائل البغدادية).
214 - فإن هذا كان له دعاء يدعو به، فإذا
جعل مكان دعائه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كفاه الله ما أهمه من أمر
دنياه وآخرته، فإنه كما صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، وهو لو دعا لآحاد
المؤمنين لقالت الملائكة:
«آمين،
ولك بمثلٍ» فدعاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم
أولى بذلك.
215 - ومن قال لغيره من الناس: ادع لي - أو
لنا - وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضاً بأمره وبفعل ذلك المأمور
به كما يأمره بسائر فعل الخير فهو مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤتم به، ليس هذا
من السؤال المرجوح.
216 - وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته
لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك،
بل هذا هو من السؤال المرجوح الذي تَرْكه إلى الرغبة إلى الله وسؤاله أفضل من
الرغبة إلى المخلوق وسؤاله. وهذا كله من سؤال الأحياء السؤال الجائز المشروع.
217 - وأما سؤال الميت فليس بمشروع ولا
واجب ولا مستحب بل ولا مباح، ولم يفعل هذا قط أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان،
ولا استحب ذلك أحد من سلف الأمة؛ لأن ذلك فيه مفسدة راجحة وليس فيه مصلحة راجحة،
والشريعة إنما تأمر بالمصالح الخالصة أو الراجحة، وهذا ليس فيه مصلحة راجحة بل إمّا
أن يكون مفسدة محضة أو مفسدة راجحة، وكلاهما غير مشروع.
218 - فقد تبين أن ما فعله النبي صلى الله
عليه وسلم من طلب الدعاء من غيره هو من باب الإحسان إلى الناس / الذي هو واجب أو
مستحب.
219 - وكذلك ما أمر به من الصلاة على
الجنائز ومن زيارة قبور المؤمنين والسلام عليهم والدعاء لهم هو من باب الإحسان إلى
الموتى الذي هو واجب أو مستحب، فإن الله تعالى أمر المسلمين بالصلاة والزكاة،
فالصلاة حقٌّ الحقِّ في الدنيا والآخرة، والزكاة حقٌّ الخلق.
220 - فالرسول أمر الناس بالقيام بحقوق
الله وحقوق عباده، بأن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئاً. ومن عبادته الإحسان إلى
الناس حيث أمرهم الله سبحانه به كالصلاة على الجنائز وكزيارة قبور المؤمنين،
فاستحوذ الشيطان على أتباعه فجعل قصدهم بذلك الشرك بالخالق وإيذاء المخلوق، فإنهم
إذا كانوا إنما يقصدون بزيارة قبور الأنبياء والصالحين سؤالهم أو السؤال عندهم أو
بهم، لايقصدون السلام عليهم ولا الدعاء لهم كما يقصد بالصلاة على الجنائز كانوا
بذلك مشركين، وكانوا مؤذين ظالمين لمن يسألونه، وكانوا ظالمين لأنفسهم. فجمعوا بين
أنواع الظلم الثلاثة.
221 - فالذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل
وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من
العبادات المبتدعة فيه شرك وظلم وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد. فإن الله
تعالى أمر المؤمنين بعبادته والإحسان إلى عباده كما قال تعالى (4: 36):
﴿وَاعْبُدُوا
اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي
الْقُرْبَى﴾ وهذا أمر بمعالي الأخلاق، وهو سبحانه يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها.
222 - وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
«إنما
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» رواه الحاكم في
صحيحه.
223 - وقد ثبت عنه في الصحيح صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
«اليد
العليا خير من اليد السفلى».
224 - وقال:
«اليد العليا هي المعطية
واليد السفلى السائلة».
225 - وهذا ثابت عنه في الصحيح. فأين
الإحسان إلى عباد الله من إيذائهم بالسؤال والشحاذة لهم؟.
226 - وأين التوحيد للخالق بالرغبة إليه
والرجاء له والتوكل عليه والحب له من الإشراك به بالرغبة إلى المخلوق والرجاء له
والتوكل عليه وأن يحب كما يحب الله؟
227 - وأين صلاح العبد في عبودية الله
والذل له والافتقار إليه من فساده في عبودية المخلوق والذل له والافتقار إليه؟.
228 - فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتلك
الأنواع الثلاثة الفاضلة المحمودة التي تصلح أمور أصحابها في الدنيا والآخرة، ونهى
عن الأنواع الثلاثة التي تفسد أمور أصحابها، ولكن الشيطان يأمر بخلاف ما يأمر به
الرسول، قال تعالى (36: 60 - 62):
﴿أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ
أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾،
وقال تعالى (15: 42): ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ﴾، وقال تعالى (16: 98 - 99): ﴿فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ
مُشْرِكُونَ﴾، وقال تعالى (43: 36 - 37):
﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ
نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ
السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾،
وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزل الله على رسوله الذي قال فيه (15: 9): ﴿إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾،
وقال تعالى (20: 123 - 126): ﴿قَالَ اهْبِطَا
مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾،
وقد قال تعالى (7: 1 - 3)، ﴿المص* كِتَابٌ
أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ
وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾،
وقد قال تعالى (14: 1 - 2): ﴿كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾،
وقال تعالى (42: 52 - 53): ﴿وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلاَ الأيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ
نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِرَاطِ اللَّهِ/
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ
الأمُورُ﴾.
229 - فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به
رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر، وترك ما حظر، وتصديقه فيما أخبر، لا
طريق إلى الله إلا ذلك. وهذا سبيل أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند
الله الغالبين، وكل ما خالف ذلك فهو من طرق أهل الغي والضلال، وقد نزه الله تعالى
نبيه عن هذا وهذا فقال تعالى (53: 1 - 4):
﴿وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى*
إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى﴾ وقد أمرنا الله
سبحانه أن نقول في صلاتنا: ﴿اهدنا الصراط
المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾.
230 - وقد روى الترمذي وغيره عن عدي بن
حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«اليهود
مغضوب عليهم، والنصارى ضالون». قال الترمذي:
حديث صحيح.
231 - وقال سفيان بن عيينة: كانوا يقولون
من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى.
232 - وكان غير واحد من السلف يقول: احذروا
فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.
233 - فمن عرف الحق ولم يعمل به أشبه
اليهود الذين قال الله فيهم (2: 44):
﴿أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
234 - ومن عبد الله بغير علم بل بالغلو
والشرك أشبه النصارى الذين قال الله فيهم (5: 77):
﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾.
235 - فالأول من الغاوين، والثاني من
الضالين؛ فإن الغي اتباع الهوى، والضلال عدم الهدى، قال تعالى (7: 175 - 176):
﴿وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ﴾، وقال تعالى (7: 146):
﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ
فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾. ومن جمع الضلال
والغي ففيه شبه من هؤلاء وهؤلاء. نسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر إخواننا صراط
الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.