صفحة جديدة 6
167 - وأما سؤال الخليل
لربه عز وجل فهذا مذكور في القرآن في غير موضع، فكيف يقول حسبي من سؤالي علمه
بحالي، والله بكل شيء عليم، وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه؛ لأنه
سبحانه جعل هذه الأمور أسبابًا لما يرتبه عليها من إثابة العابدين، وإجابة
السائلين.
168 - وهو سبحانه يعلم الأشياء علىماهي
عليه، فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار،
ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضي بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة
والطاعة التي بها ينال كرامته.
169 - ولكن العبد قد يكون مأمورًا في بعض
الأوقات بما هو أفضل من الدعاء كما روي في الحديث:
«من
شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».
170 - وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
«من
شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»
قال الترمذي: حديث حسن غريب.
171 - وأفضل العبادات البدنية الصلاة،
وفيها القراءة والذكر والدعاء وكل واحد في موطنه مأمور به، ففي القيام بعد
الاستفتاح يقرأ القرآن، وفي الركوع ، والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر (بالتسبيح
والذكر وفي آخرها يؤمر) بالدعاء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في القيام
أيضاً وفي الركوع،/ وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل.
172 - فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال
المشروع حسن مأمور، وقد سأل الخليل وغيره، قال تعالى عنه (14: 37 - 41):
﴿رَبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ*
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ
مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ
لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ*
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ
دُعَاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ
الْحِسَابُ﴾. وقال تعالى (2: 127 - 129):
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ
مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
173 - وكذلك دعاء المسلم لأخيه حسنٌ مأمور
به، وقد ثبت في الصحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ما
من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة، قال
الملك الموكل به: آمين ولك بمثل» أي بمثل ما
دعوت لأخيك به.
174 - وأما سؤال المخلوق المخلوق أن يقضي
حاجة نفسه أو يدعو له فلم يؤمر به، بخلاف سؤال العلم فإن الله أمر بسؤال العلم كما
في قوله تعالى: (16: 43 و 21: 7):
﴿فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾
وقال تعالى: (10: 94): ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكَ﴾ وقال تعالى: (43: 45): ﴿وَاسْأَلْ
مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ
آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾.
175 - وهذا لأن العلم يجب بذله، فمن سئل عن
علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة. وهو يزكو على التعليم، لا
ينقص بالتعليم كما تنقص الأموال بالبذل. ولهذا يشبه بالمصباح.
176 - وكذلك من له عند غيره حق من عين أو
دين كالأمانات مثل الوديعة والمضاربة، لصاحبها أن يسألها ممن هي عنده.
177 - وكذلك مال الفيء وغيره من الأموال
المشتركة التي يتولى قسمتها ولي الأمر، للرجل أن يطلب حقه منه كما يطلب حقه من
الوقف والميراث والوصية، لأن المسئول يجب عليه أداء الحق إلى مستحقيه.
178 - ومن هذا الباب سؤال النفقة لمن تجب
عليه، وسؤال المسافر الضيافة لمن تجب عليه كما استطعم موسى والخضر أهل القرية.
179 - وكذلك الغريم له أن يطلب دَينه ممن
هو عليه. وكل واحد من المتعاقدين له أن يسأل الآخر أداء حقه إليه: فالبائع يسأل
الثمن، والمشتري يسأل المبيع. ومن هذا الباب قوله تعالى: (4: 1):
﴿وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ﴾.
180 - ومن السؤال مالا يكون مأموراً به،
والمسئول مأمور بإجابة السائل: قال تعالى (93: 10):
﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ
تَنْهَرْ﴾ وقال تعالى (70: 24 - 25): ﴿وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
وقال تعالى (22: 36): ﴿فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾.
181 - ومنه الحديث:
«إن أحدكم
ليسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها ناراً" وقوله: /"اقطعوا عني لسان هذا».
182 - وقد يكون السؤال منهياً عنه نهي
تحريم أو تنزيه، وإن كان المسئول مأموراً بإجابة سؤاله. فالنبي صلى الله عليه وسلم
كان من كماله أن يعطي السائل، وهذا في حقه من فضائله ومناقبه، وهو واجب أو مستحب،
وإن كان نفس سؤال السائل منهيًّا عنه.
183 - ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من
أكابر الصحابة سألوه شيئاً من ذلك، ولا سألوه أن يدعو لهم وإن كانوا قد يطلبون منه
أن يدعو للمسلمين، كما أشار عليه عمر في بعض مغازيه لما استأذنوه في نحر بعض ظهرهم
فقال عمر: يارسول الله! كيف بنا إذا لقينا العدو غدًا رجالاً جياعاً! ولكن إن رأيت
أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها ثم تدعو الله بالبركة فإن الله يبارك لنا في
دعوتك. وفي رواية: فإن الله سيغيثنا بدعائك.
184 - وإنما كان سأله ذلك بعض المسلمين كما
سأله الأعمى
أن يدعو الله له ليرد عليه بصره، وكما سألته أم سُلَيم أن يدعو الله لخادمه أنس،
وكما سأله أبوهريرة أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين، ونحو ذلك.
185 - وأما الصديق فقد قال الله فيه وفي
مثله (92: 17 - 21):
﴿وَسَيُجَنَّبُهَا
الأتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ
نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلاَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾.
186 - وقد ثبت في الصحاح عنه أنه قال صلى
الله عليه وسلم:
«إن
أمنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبوبكر، ولو كنتُ متخذاً من أهل الأرض خليلاً
لاتخذت أبا بكر خليلاً» فلم يكن في الصحابة أعظم منَّةً من الصديق في نفسه وماله.
187 - وكان أبوبكر إنما يعمل هذا ابتغاء
وجه ربه الأعلى لا يطلب جزاء من مخلوق، فقال تعالى:
﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى*
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزَى* إِلاَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾
فلم يكن لأحد عند الصديق نعمة تجزى، فإنه كان مستغنياً بكسبه وماله عن كل أحد،
والنبي صلى الله عليه وسلم كان له على الصديق وغيره نعمة الإيمان والعلم، وتلك
النعمة لا تجزى، فإن أجر الرسول فيها على الله كما قال تعالى (26: 127): ﴿وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
188 - وأما عليٌّ وزيد وغيرهما فإن النبي
صلى الله عليه وسلم كان له عندهم نعمة تجزى، فإن زيداً كان مولاه فأعتقه، قال تعالى
(33: 37):
﴿وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾، وعليٌّ كان في عيال النبي صلى الله عليه وسلم لجدب أصاب أهل مكة فأراد
النبي صلى الله عليه وسلم والعباس التخفيف عن أبي طالب من عياله، فأخذ النبي صلى
الله عليه وسلم علياً إلى عياله وأخذ العباس جعفراً إلى عياله، وهذا مبسوط في موضع
آخر.
189 - والمقصود هنا أن الصديق كان أمنَّ
الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونه كان ينفق
ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً في
خاصة نفسه لا إلى أبي بكر ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة: إن عندي راحلتين
فخذ إحداهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«بالثمن».
فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه
الأعلى لا يطلب جزاء من أحد من الخلق، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم.
190 - ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال
تعالى عمن أثنى عليهم (76: 9):
﴿إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا﴾.
191 - والدعاء جزاء كما في الحديث
«من أسدى
إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أن قد
كافأتموه».
192 - وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة
تقول للرسول: اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على
الله.
193 - وقال بعض السلف إذا قال لك السائل:
بارك الله فيك، فقل: وفيك بارك الله، فمن عمل خيراً مع المخلوقين سواء كان المخلوق
نبياً أو رجلاً صالحاً أو ملكاً من الملوك أو غنياً من الأغنياء فهذا العامل للخير
مأمور بأن يفعل ذلك خالصاً لله يبتغي به وجه الله، لا يطلب به من المخلوق جزاء ولا
دعاء ولا غيره، لا من نبي ولا رجل / صالح ولا ملك من الملائكة، فإن الله أمر العباد
كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين.
194 - وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله
به الأولين والآخرين من الرسل فلا يقبل من أحد ديناً غيره، قال تعالى (3: 85):
﴿وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الأسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الأخِرَةِ
مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾.
195 - وكان نوح وإبراهيم وموسى والمسيح
وسائر أتباع الأنبياء عليهم السلام على الإسلام، قال نوح (10: 72):
﴿وَأُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ﴾، وقال عن
إبراهيم (2: 130 - 132): ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي
الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الأخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ* إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ
تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾،
(10: 84): ﴿وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ
كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾،
وقالت السحرة (7: 126): ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ
عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾،
وقال يوسف (12: 101): ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾، وقال تعالى
(5: 44): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ
فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
لِلَّذِينَ هَادُوا﴾، وقال (5: 111) عن
الحواريين: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ
بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾.
196 - ودين الإسلام مبني على أصلين: أن
نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين وهو ما أمرت به الرسل أمر
إيجاب أو أمر استحباب، فيُعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان. فلما كانت
شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل.
وكذلك في أول الإسلام لما كان النبي صلى
الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أُمر بالتوجه
إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجًا عن دين
الإسلام.
197 - فكلُّ من لم يعبد الله بعد مبعث محمد
صلى الله عليه وسلم بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم. ولابد في جميع
الواجبات والمستحبات أن تكون خالصة لله رب العالمين، كما قال تعالى (98: 4 - 5):
﴿وَمَا
تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ
الْبَيِّنَةُ* وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ﴾، وقال تعالى (39: 1 - 3):
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ
مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ* أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾.
198 - فكل ما يفعله المسلم من القُرَب
الواجبة والمستحبة، كالإيمان بالله ورسوله والعبادات البدنية والمالية ومحبة الله
ورسوله والإحسان إلى عباد الله بالنفع والمال، هو مأمورٌ بأن يفعله خالصاً لله رب
العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه جزاء؛ لا دعاء ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن
يطلب عليه جزاء؛ لا دعاء ولا غيره.
199 - وأما سؤال المخلوق غير هذا فلا يجب،
بل ولا يستحب إلا في بعض المواضع، ويكون المسئول مأموراً بالإعطاء قبل السؤال، وإذا
كان المؤمنون ليسوا مأمورين بسؤال المخلوقين فالرسول أولى بذلك صلى الله عليه وسلم،
فإنه أجل قدراً وأغنى بالله من غيره.
200 - فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد:
مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي من نوع
الشرك.
ومفسدة إيذاء المسؤول وهي من نوع ظلم
الخلق.
وفيه ذل لغير الله وهو ظلم النفس.
201 - فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة،
وقد نزه الله رسوله عن ذلك كله. وحيث أمر الأمة بالدعاء له فذاك من باب أمرهم بما
ينتفعون به كما يأمرهم بسائر الواجبات والمستحبات، وإن كان هو ينتفع بدعائهم له فهو
أيضاً ينتفع بما يأمرهم به من العبادات والأعمال الصالحة.
202 - فإنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال:
«من
دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً».
203 - ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الداعي
إلى ما تفعله أمته من الخيرات، فما يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن
ينقص من أجورهم شيئاً.
204 - ولهذا لم تجر عادة السلف بأن يهدوا
إليه ثواب الأعمال، لأن له مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم
شيئاً. وليس كذلك الأبوان، فإنه ليس كل ما يفعله الولد [يكون] للوالد مثلُ أجره،
وإنما ينتفع / الوالد بدعاء الولد ونحوه مما يعود نفعه إلى الأب.
205 - كما قال في الحديث الصحيح:
«إذا
مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له».
206 - فالنبي صلى الله عليه وسلم - فيما
يطلبه من أمته من الدعاء - طلبُه طلبُ أمر وترغيب ليس بطلب سؤال. فمن ذلك أمره لنا
بالصلاة والسلام عليه، فهذا قد أمر الله به في القرآن بقوله (33: 56):
﴿صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
والأحاديث عنه في الصلاة والسلام معروفة.