HTML Editor - Full Version
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مُتَنَاقِضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ؛
- فَتَارَةً يَظُنُّ أَنَّ إثْبَاتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ الْبَاطِلَ؛ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَهُ حُجَّةً فِيمَا يَظُنُّ نَفْيَهُ مِنْ الصِّفَاتِ حَذَرًا مِنْ مَلْزُومَاتِ التَّشْبِيهِ.
- وَتَارَةً يَتَفَطَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ هَذَا عَلَى تَقْدِيرٍ؛ فَيُجِيبُ بِهِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ الصِّفَاتِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ النفاة.
وَلِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ:
- هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟
- وَهَلْ لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ التَّوَاطُؤِ أَوْ التَّشْكِيكِ؟ كَمَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي إثْبَاتِ الْأَحْوَالِ وَنَفْيِهَا.
- وَفِي أَنَّ الْمَعْدُومَ هَلْ هُوَ شَيْءٌ أَمْ لَا؟
- وَفِي وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ هَلْ هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا أَمْ لَا؟
وَقَدْ كَثُرَ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ الِاضْطِرَابُ وَالتَّنَاقُضُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ:
- فَتَارَةً يَقُولُ أَحَدُهُمْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَيَحْكِي عَنْ النَّاسِ مَقَالَاتٍ مَا قَالُوهَا.
- وَتَارَةً يَبْقَى فِي الشَّكِّ وَالتَّحَيُّرِ.
- وَقَدْ بَسَطْنَا مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَمَا وَقَعَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ وَالْحَيْرَةِ فِيهَا لِأَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ.
وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ:
- أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ هُوَ مَاهِيَّتُه الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ؛ بِخِلَافِ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي فِي الذِّهْنِ فَإِنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ.
- وَأَنَّ لَفْظَ الذَّاتِ وَالشَّيْءِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مُتَوَاطِئَةٌ..
فَإِذَا قِيلَ: إنَّهَا مُشَكِّكَةٌ لِتَفَاضُلِ مَعَانِيهَا.
فَالْمُشَكِّكُ نَوْعٌ مِنْ الْمُتَوَاطِئِ الْعَامِّ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى مُتَفَاضِلًا فِي مَوَارِدِهِ أَوْ مُتَمَاثِلًا.
- وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ مَعَ أَنَّ مَا فِي الْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ وَلَكِنْ هُوَ الْعِلْمُ التَّابِعُ لِلْعَالِمِ الْقَائِمِ بِهِ.
- وَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَتَمَاثَلُ فِيهَا الْمَوْجُودَاتُ وَتَخْتَلِفُ: لَهَا وُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَلَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ، إلَّا الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا الْمُعَيَّنَةُ فَتَتَشَابَهُ بِذَلِكَ وَتَخْتَلِفُ بِهِ.
- وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلٍ مُخْتَصَرَةٍ جَامِعَةٍ مَنْ فَهِمَهَا عَلِمَ قَدْرَ نَفْعِهَا وَانْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْهُدَى وَإِمْكَانُ إغْلَاقِ بَابِ الضَّلَالِ؛ ثُمَّ بَسْطُهَا وَشَرْحُهَا لَهُ مَقَامٌ آخَرُ؛ إذْ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَالْمَقْصُودُ: هُنَا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِيمَا يُنْفَى عَنْ الرَّبِّ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ - كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ - خَطَأٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ طُرُقِ النَّفْيِ الْبَاطِلَةِ.
فَصْلٌ:
وَأَفْسَدُ مِنْ ذَلِكَ: مَا يَسْلُكُهُ نفاة الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا إذَا أَرَادُوا أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَمَّا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ مِثْلَ أَنْ يُرِيدُوا تَنْزِيهَهُ عَنْ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُرِيدُونَ الرَّدَّ عَلَى الْيَهُودِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ بَكَى عَلَى الطُّوفَانِ حَتَّى رَمِدَ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ..
وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ بَعْضِ الْبَشَرِ وَأَنَّهُ اللَّهُ،
فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَحْتَجُّ عَلَى هَؤُلَاءِ بِنَفْيِ التَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَوْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ لَكَانَ جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَبِسُلُوكِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الطَّرِيقِ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ..
فَإِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ لِوُجُوهِ: -
أَحَدُهَا: أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مَنْ نَفْيِ التَّحَيُّزِ وَالتَّجْسِيمِ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالنِّزَاعِ وَالْخَفَاءِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ وَكُفْرُ صَاحِبِ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَالدَّلِيلُ مُعَرِّفٌ لِلْمَدْلُولِ وَمُبَيِّنٌ لَهُ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى الْأَظْهَرِ الْأَبْيَنِ بِالْأَخْفَى كَمَا لَا يُفْعَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِفُونَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ: يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ لَا نَقُولُ بِالتَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَيَنْفِي التَّجْسِيمَ؛ فَيَصِيرُ نِزَاعُهُمْ مِثْلَ نِزَاعِ مُثْبِتَةِ الْكَلَامِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَيَصِيرُ كَلَامُ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ وَاحِدًا.
وَيَبْقَى رَدُّ النفاة عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِطَرِيقِ وَاحِدٍ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ يَنْفُونَ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَاتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ سَالِكِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مُتَنَاقِضُونَ؛
- فَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنْ الْإِثْبَاتِ،
- كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنْ النَّفْيِ.
فَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ - كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ - إذَا قَالَتْ لَهُمْ النفاة كَالْمُعْتَزِلَةِ: هَذَا تَجْسِيمٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْجِسْمِ أَوْ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ إلَّا جِسْمًا.
قَالَتْ لَهُمْ الْمُثْبِتَةُ:
- وَأَنْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
- وَقُلْتُمْ: لَيْسَ بِجِسْمِ؛ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَوْجُودًا حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا.
فَقَدْ أَثْبَتُّمُوهُ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمْتُمْ فَكَذَلِكَ نَحْنُ .
وَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا؛ بِلَا حَيَاةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتُونَ إذَا قَالُوا لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ يَرْضَى وَيَغْضَبُ وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ أَوْ مَنْ وَصَفَهُ بِالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ أَوْ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا قَالُوا: هَذَا يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ.
قَالَتْ لَهُمْ الْمُثْبِتَةُ: فَأَنْتُمْ قَدْ وَصَفْتُمُوهُ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَهَذَا هَكَذَا؛ فَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا الْجِسْمُ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُوصَفَ بِأَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ بِجِسْمِ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ؛ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ.
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالنَّقَائِصِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ طَرِيقًا فَاسِدًا: لَمْ يَسْلُكْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالْجِسْمِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَلَا بِالْجَوْهَرِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا عِبَارَاتٌ مُجْمَلَةٌ لَا تُحِقُّ حَقًّا وَلَا تُبْطِلُ بَاطِلًا وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِيمَا أَنْكَرَهُ عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ: مَا هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ؛ بَلْ هَذَا هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ.