HTML Editor - Full Version
فَالْأَوَّلُ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: «عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي» الْحَدِيثَ..
وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ: «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ أَوْ قَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ».
وَقَوْلِهِ: «قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ»..
فَقَالُوا: قَدْ عُلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا أَصَابِعُ الْحَقِّ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ أَعْطَيْتُمْ النُّصُوصَ حَقَّهَا مِنْ الدَّلَالَةِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَى حَقٍّ أَمَّا الْوَاحِدُ ..
فَقَوْلُهُ: «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ» صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ لَيْسَ هُوَ صِفَةً لِلَّهِ وَلَا هُوَ نَفْسُ يَمِينِهِ؛
لِأَنَّهُ قَالَ: «يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ»،
وَقَالَ: «فَمَنْ قَبَّلَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ»..
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَبَّهَ لَيْسَ هُوَ الْمُشَبَّهَ بِهِ..
فَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ مُسْتَلِمَهُ لَيْسَ مُصَافِحًا لِلَّهِ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ يَمِينِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ ظَاهِرُهُ كُفْرًا لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأْوِيلِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؟
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ: فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مُفَسَّرًا: «يَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ»..
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَمْرَضْ وَلَا يَجُعْ وَلَكِنْ مَرِضَ عَبْدُهُ وَجَاعَ عَبْدُهُ فَجَعَلَ جُوعَهُ جُوعَهُ وَمَرَضَهُ مَرَضَهُ مُفَسِّرًا ذَلِكَ بِأَنَّك لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي وَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ «قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ أَنَّ الْقَلْبَ مُتَّصِلٌ بِالْأَصَابِعِ وَلَا مُمَاسٌّ لَهَا، وَلَا أَنَّهَا فِي جَوْفِهِ وَلَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا بَيْنَ يَدَيَّ مَا يَقْتَضِي مُبَاشَرَتَهُ لِيَدَيْهِ...
وَإِذَا قِيلَ: السَّحَابُ الْمُسَخَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ مُمَاسًّا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلَ أَنْ يُجْعَلَ اللَّفْظُ نَظِيرًا لِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟»..
فَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا؟» فَهَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ هُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْأَيْدِي؛ فَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِ: ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وَهُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ فَقَالَ: ﴿لِمَا خَلَقْتُ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿بِيَدَيَّ﴾..
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ هُنَا ذَكَرَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَفِي الْيَدَيْنِ ذَكَرَ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ وَهُنَاكَ أَضَافَ الْأَيْدِيَ إلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾.
وَهَذَا فِي الْجَمْعِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ فِي الْمُفْرَدِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَذْكُرُ نَفْسَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَلَا يَذْكُرُ نَفْسَهُ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ قَطُّ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ تَقْتَضِي التَّعْظِيمَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ؛ وَرُبَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَأَمَّا صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فَتَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ لَمَا كَانَ كَقَوْلِهِ: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ..
وَلَوْ قَالَ خَلَقْت بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لَكَانَ مُفَارِقًا لَهُ؛ فَكَيْفَ إذَا قَالَ خَلَقْت بِيَدَيَّ؟ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ ..
هَذَا مَعَ دَلَالَاتِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: «الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ: الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَ النُّصُوصِ الْمُتَنَازَعِ فِي مَعْنَاهَا مِنْ جِنْسِ ظَاهِرِ النُّصُوصِ الْمُتَّفَقِ عَلَى مَعْنَاهَا - وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْجَمِيعِ - فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ مُرَادٌ: كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ كَعِلْمِنَا وَقُدْرَتُهُ كَقُدْرَتِنَا وَكَذَلِكَ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ حَقِيقَةً عَالِمٌ حَقِيقَةً قَادِرٌ حَقِيقَةً؛ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛
فَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾،
وَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ اسْتِوَاءً كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ، وَلَا حُبًّا كَحُبِّهِ وَلَا رِضًا كَرِضَاهُ..
فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ يَظُنُّ أَنَّ ظَاهِرَ الصِّفَاتِ تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ظَاهِرِ ذَلِكَ مُرَادًا..
وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا مَا يَلِيقُ بِالْخَالِقِ وَيَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُ هَذَا الظَّاهِرِ وَنَفْيُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ؛ وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا السَّمْعِ مَا يَنْفِي هَذَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَنْفِي بِهِ سَائِرَ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدًا وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ صِفَاتِنَا مِنْهَا مَا هِيَ أَعْيَانٌ وَأَجْسَامٌ وَهِيَ أَبْعَاضٌ لَنَا كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ: وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعَانٍ وَأَعْرَاضٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ بِنَا: كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ.
ثُمَّ إنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الرَّبَّ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ: لَمْ يَقُلْ الْمُسْلِمُونَ إنَّ ظَاهِرَ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مِثْلُ مَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا؛
فَكَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَمَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا بَلْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ تُنَاسِبُهُ.
فَإِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ..
وَنِسْبَةُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ الْخَالِقِ إلَيْهِ وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ وَلَا الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ كَالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ؛
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:﴿تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ.
وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ:
وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَا؛ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ كُلِّهَا أَنَّهَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الَّذِي فَهِمَهُ فَيَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَحَاذِيرِ: -
أَحَدُهَا كَوْنُهُ مِثْلَ مَا فَهِمَهُ مِنْ النُّصُوصِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَظَنَّ أَنَّ مَدْلُولَ النُّصُوصِ هُوَ التَّمْثِيلُ.
الثَّانِي أَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ مَفْهُومَهَا وَعَطَّلَهُ بَقِيَتْ النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ.
فَيَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ عَلَى النُّصُوصِ؛ وَظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ - حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمَا هُوَ التَّمْثِيلُ الْبَاطِلُ - قَدْ عَطَّلَ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي كَلَامِهِمَا مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ وَالْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ أَنَّهُ يَنْفِي تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَيَكُونُ مُعَطِّلًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَصِفُ الرَّبَّ بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ صِفَاتِ الْأَمْوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ أَوْ صِفَاتِ الْمَعْدُومَاتِ فَيَكُونُ قَدْ عَطَّلَ بِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الرَّبُّ وَمَثَّلَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَجَعَلَ مَدْلُولَهَا هُوَ التَّمْثِيلَ بِالْمَخْلُوقَاتِ.
فَيُجْمَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ يَكُونُ مُلْحِدًا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا دَلَّتْ عَلَى وَصْفِ الْإِلَهِ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ - فَأَمَّا عُلُوُّهُ وَمُبَايَنَتُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلسَّمْعِ؛
وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ هُوَ السَّمْعُ.
وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَهُ وَلَا مُدَاخِلَهُ فَيَظُنُّ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُ إذَا وُصِفَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ: كَانَ اسْتِوَاؤُهُ كَاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ؛
كَقَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾ ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ فَيَتَخَيَّلُ لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ كَحَاجَةِ الْمُسْتَوِي عَلَى الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ فَلَوْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ لَسَقَطَ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا وَلَوْ عَثَرَتْ الدَّابَّةُ لَخَرَّ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا.
فَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ عَدِمَ الْعَرْشُ لَسَقَطَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى..
ثُمَّ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ أَنْ يَنْفِيَ هَذَا فَيَقُولَ: لَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ بِقُعُودِ وَلَا اسْتِقْرَارٍ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ مُسَمَّى الْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ يُقَالُ فِيهِ مَا يُقَالُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاخِلَةً فِي ذَلِكَ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَلَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوِيًا وَلَا مُسْتَقِرًّا وَلَا قَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مُسَمَّى ذَلِكَ إلَّا مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ..
فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا وَنَفْيُ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْقُعُودِ فُرُوقًا مَعْرُوفَةً.
وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنْ يُعْلَمَ خَطَأُ مَنْ يَنْفِي الشَّيْءَ مَعَ إثْبَاتِ نَظِيرِهِ وَكَأَنَّ هَذَا الْخَطَأَ مِنْ خَطَئِهِ فِي مَفْهُومِ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُ اسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَالْفُلْكِ وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاسْتِوَاءَ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ كَمَا أَضَافَ إلَيْهِ سَائِرَ أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ.
فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ فَهَدَى وَأَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ بِأَيْدٍ وَكَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ يَسْمَعُ وَيَرَى وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
فَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِوَاءً مُطْلَقًا يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِ وَلَا عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اسْتِوَاءً أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فَلَوْ قُدِّرَ - عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ الْمُمْتَنِعِ - أَنَّهُ هُوَ مِثْلُ خَلْقِهِ - تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ - لَكَانَ اسْتِوَاؤُهُ مِثْلَ اسْتِوَاءِ خَلْقِهِ أَمَّا إذَا كَانَ هُوَ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنْ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْعَرْشِ وَلِغَيْرِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا اسْتِوَاءً يَخُصُّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْتِوَاءً يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَصْلُحُ لَهُ - كَمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ وَخَلْقِهِ إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ - فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ الْعَرْشُ لَخَرَّ مَنْ عَلَيْه؟ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا هَلْ هَذَا إلَّا جَهْلٌ مَحْضٌ وَضَلَالٌ مِمَّنْ فَهِمَ ذَلِكَ وَتَوَهَّمَهُ أَوْ ظَنَّهُ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَمَدْلُولَهُ أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الْغَنِيِّ عَنْ الْخَلْق؟
بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ جَاهِلًا فَهِمَ مِثْلَ هَذَا وَتَوَهَّمَهُ لَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ وَأَنَّهُ لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ أَصْلًا كَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَظَائِرِهِ فِي سَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ.
فَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ فَهَلْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ بِنَاءَهُ مِثْلُ بِنَاءِ الْآدَمِيِّ الْمُحْتَاجِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى زِنْبِيلٍ وَمَجَارِفَ وَضَرْبِ لَبِنٍ وَجَبَلِ طِينٍ وَأَعْوَانٍ؟