صفحة جديدة 1
فصل
إذا تَبَيّن هذا وعُلِمَ أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحُب وغير ذلك
يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، كما أن القصد التام مع
القدرة يستلزم وجود المراد وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور
موجب ذلك ومقتضاه زالت الشبه العلمية في هذه المسألة، ولم يبق إلا نزاع لفظي في أن
مُوجَب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه فيكون لفظ الإيمان دالاً عليه
بالتضمن والعموم؟ أو هو لازم للإيمان ومعلول له وثمرة له فتكون دلالة الإيمان عليه
بطريق اللزوم؟
وحقيقة الأمر أن اسم الإيمان يُستعمَل تارةً هكذا وتارة هكذا كما قد تقدم؛ فإذا
قُرِنَ اسم الإيمان بالإسلام أو العمل كان دالاً على الباطن فقط، وإن أُفْرِدَ اسم
الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص.
فقولـه صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شُعبة: أعلاها قول لا إله إلا
الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»؛ أُفْرِد لفظ
(الإيمان) فدخل فيه الباطن والظاهر.
وقولـه صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: «الإيمان أن تؤمن بالله،
وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر» ذَكَرَه مع قولـه صلى الله عليه وسلم:
«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي
الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت»؛ فلما قَرَنه باسم (الإسلام) ذَكَرَ ما يخصه،
فالاسم في ذلك الحديث مُجردٌ عن الاقتران، وفي هذا الحديث مقرون باسم (الإسلام)..
وكذلك اسم (الإسلام) إذا جُرِّدَ كما في قوله تعالى:
﴿إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾[آل
عمران:19]
وقوله تعالى:
﴿وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾[آل
عمران:85]
دخل فيه الباطن، فلو أَتى بالعمل الظاهر دون الباطن لم يكن ممَّنْ أتى بالدين الذي
هو عند الله الإسلام..
وأَمّا إذا قُرِنَ (الإسلام) بـ (الإيمان):
كما في قولـه تعالى:
﴿قَالَتِ
الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾[الحجرات:14]..
وقولـه تعالى:
﴿فَأَخْرَجْنَا
مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذاريات:35]
﴿فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[الذاريات:36].
وقولـه تعالى:
﴿إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾[الأحزاب:35]
فقد يُراد بـ (الإسلام) الأعمال الظاهرة كما في حديث أنس الذي في المسند عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب»..
ومَنْ عَلِمَ أن دلالة اللفظ تختلف بالإفراد والاقتران كما في لفظ الفقير والمسكين،
والمعروف (الفحشاء) والمنكر والبَغْي وغير ذلك من الأسماء وكما في لغات سائر
الأمم عربها وعجمها؛ زاحت عنه الشبهة في هذا الباب والله أعلم.
فإن قال قائل: (اسم الإيمان إنما يتناول الأعمال مجازاً):
قيل له أولاً: ليس هذا بأَوْلَى ممَّنْ قال: (إنما تخرج عنه الأعمال مجازاً) بل هذا
أقوى؛ لأن خروج العمل عنه إنما هو إذا كان مقروناً باسم (الإسلام والعمل)، وأما
دخول العمل فيه فإذا أُفْرِدَ كما في قولـه صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع
وسبعون شعبة؛ أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق،
والحياء شعبة من الإيمان»؛ ومعلوم أن ما يدل مع الاقتران أَوْلَى باسم (المجاز) مما
يدل عند التجريد والإطلاق.
وقيل له ثانياً: لا نزاع في أن العمل الظاهر هو فرع عن الباطن ومُوجَب له ومُقتضاه؛
لكن هل هو داخل في مسمى الاسم وجزء منه أو هو لازم للمسمى كالشرط المفارق والموجَب
التابع؟
ومن المعلوم أن الأسماء الشرعية والدينية كـ (اسم الصلاة، والزكاة، والحج، ونحو
ذلك) هي باتفاق الفقهاء اسم لمجموع الصلاة الشرعية، والزكاة الشرعية، والحج
الشرعي..
ومَنْ قال: (إن
الاسم إنما يتناول مما يتناوله عند الإطلاق في اللغة، وإن ما زاده الشارع إنما هو
زيادة في الحُكم وشرط فيه لا داخل في الاسم)- كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن الطيب
والقاضي أبو يعلى ومَنْ وافقهما على أن الشرع زاد أحكاماً شرعية جعلها شروطاً في
القصد، والأعمال والدعاء
ليست داخلة في مُسمى الحج والصيام والصلاة- فقولـهم مرجوح عند الفقهاء وجماهير
المنسوبين إلى العلم..
ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول..
فإذا قال قائل: إن اسم الإيمان إنما يتناول مجرد ما هو تصديق، وأما كونه تصديقاً
بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكون ذلك مُستلزِماً لحُب الله ورسوله ونحو ذلك هو شرط
في الحُكم لا داخل في الاسم إن لم يكن أضعف من ذلك القول فليس بدونه في الضعف..
فكذلك مَنْ قال: الأعمال الظاهرة لوازم للباطن لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه
قولـه قول هؤلاء..
والشارع إذا قَرَن بـ (الإيمان) (العمل) فكما يقرن بالحج ما هو من تمامه كما إذا
قال: (مَنْ حَجّ البيت، وطاف، وسعى، ووقف بعرفة، ورمى الجمار)، و(مَنْ صَلّى فقرأ،
وركع، وسجد)..
كما قال: «مَنْ صام رمضان إيماناً واحتساباً» ومعلوم أنه لا يكون صوماً شرعياً إن
لم يكن إيماناً واحتساباً..
وقال: «مَنْ حَجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ومعلوم
أن الرفث- الذي هو الجماع- يفسد الحج، والفسوق ينقص ثوابه..
وكما قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا»
فلا يكون مُصَليّاً إن لم يستقبل قِبلتنا في الصلاة..
وكما قال صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة
مَنْ حَافَظ عليهن كان له عهد عند الله أن يُدْخله الجنة، ومَنْ لم يحافظ عليهن لم
يكن له عند الله عهد؛ إن شاء عَذّبه وإن شاء غفر له» فَذَكَر الْمُحافِظ عليها،
ومعلوم أنه لا يكون مُصَليّاً لها على الوجه المأمور إلا بالمحافظة عليها، ولكن
بَيّن أن الوعيد مشروط بذلك، ولهذا لا يلزم مِن عدم المحافظة أن لا يُصليها بعد
الوقت فلا يكون محافظاً عليها، إذ المحافظة تستلزم فِعْلها كما قال:
﴿حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى﴾[البقرة:238]
نزلت لما أُخِّرَت العصر عام الخندق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله
أجوافهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس»...
وبهذا يظهر أن الاحتجاج بذلك على أن تارك الصلاة لا يكفر حجة ضعيفة، لكنه يدل على
أن تارك المحافظة عليها لا يكفر، فإذا صلاها بعد الوقت لم يكفر؛ ولهذا جاءت في
«الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قيل له: يا رسول الله! ألا نقاتلهم؟ قال:
«لا ما صلوا»..
وكذلك لما سُئِل ابن مسعود عن قولـه تعالى:
﴿أَضَاعُوا
الصَّلاةَ﴾[مريم:59]
قال: هو تأخيرها عن وقتها، فقيل له: كنا نظن ذلك تَرْكها، فقال: لو تركوها كانوا
كفاراً...
والمقصود: أنه قد يدخل في الاسم المطلق أمور كثيرة وإن كانت تُخَصّ بالذِّكْر.
وقيل لِمَنْ قال: (دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز) نزاعك لفظي؛ فإنك إذا
سَلَّمْت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم
موجباً لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن.. فإذا اعترفت بهذا كان
النزاع لفظياً..
وإن قلت: ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه قد يستقر الإيمان التام الواجب في
القلب مع إظهار ما هو كفر وتَرْك جميع الواجبات الظاهرة..
قيل لك: فهذا يُناقض قولك: (إن الظاهر لازم له ومُوجَب له)، بل حقيقة قولك: (إن
الظاهر يقارن الباطن تارة ويُفارقه أخرى) فليس بلازم له ولا مُوجَب ومعلول له،
ولكنه دليل؛ إذا وُجِد دَلّ على وجود الباطن، وإذ عُدِم لم يدل عدمه على العدم)؛
وهذا حقيقة قولك، وهو أيضاً خطأ عقلاً كما هو خطأ شرعاً؛ وذلك أن هذا ليس بدليل
قاطع؛ إذ هذا يظهر من المنافق، فإنما يبقى دليلاً في بعض الأمور المتعلقة بدار
الدنيا كدلالة اللفظ على المعنى وهذا حقيقة قولك..
فيقال لك: فلا يكون ما يظهر من الأعمال لا ثمرة للإيمان الباطن ولا مُوجَباً له ولا
من مقتضاه، وذلك أن المقتضي لهذا الظاهر إن كان هو نفس الإيمان الباطن لم يتوقف
وجوده على غيره، فإن ما كان معلولاً للشيء وموجَباً له لا يتوقف على غيره بل يلزم
من وجودِه وجودَه..
فلو كان الظاهر موجب الإيمان الباطن لوجب أن لا يتوقف على غيره، بل إذا وُجِد
الموجب وُجِد الموجب، وأما إذا وُجِد معه تارة وعُدِم أخرى أمكن أن يكون من موجب
ذلك الغير وأمكن أن يكون موقوفاً عليهما جميعاً، فإن ذلك الغير إما مستقل بالإيمان
أو مشارك للإيمان، وأحسن أحواله أن يكون الظاهر
موقوفاً عليهما معاً (على ذلك الغير وعلى الإيمان)، بل قد عُلِم أنه يوجد بدون
الإيمان كما في أعمال المنافق؛ فحينئذ لا يكون العمل الظاهر مستلزماً للإيمان ولا
لازماً له، بل يوجد معه تارة ومع نقيضه تارة، ولا يكون الإيمان علة له ولا موجباً
ولا مقتضياً فيبطل حينئذ أن يكون دليلاً عليه، لأن الدليل لا بد أن يستلزم المدلول-
وهذا هو الحق- فإن مجرد التكلم بالشهادتين ليس مستلزماً للإيمان النافع عند الله...
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد لَمّا قال: هو مؤمن، قال: (أو مسلم)..
وقال الله تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾[الممتحنة:10]
فدل ذلك على أن مجرد إظهار الإسلام لا يكون دليلاً على الإيمان في الباطن؛ إذ لو
كان كذلك لم تحتج المهاجرات اللاتي جئن مسلمات إلى الامتحان، ودل ذلك على أنه
بالامتحان والاختبار يتبين باطن الإنسان فيُعْلَم أهو مؤمن أم ليس بمؤمن..
كما في الحديث المرفوع: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن
الله يقول:
﴿إِنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ
الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾[التوبة:18]
الآية»..
فإذا قيل: الأعمال الظاهرة تكون من موجَب الإيمان تارة ومن موجَب غيره تارة؛
كالتكلم بالشهادتين: تارة يكون من موجَب إيمان القلب، وتارة يكون للتقية كإيمان
المنافقين قال الله تعالى:
﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ﴾[البقرة:8]..
ونحن إذا قلنا: هو من ثمرة الإيمان
إذا كانت صادرة عن إيمان القلب لا عن نفاقٍ..
قيل: فإذا كانت صادرة عن إيمان إما أن يكون نفس الإيمان موجِباً لها، وإمّا أن يقف
على أَمْر آخر:
فإن كان نفس الإيمان مُوجِباً لها ثبت أنها لازمة لإيمان القلب معلولة لا تنفك عنه؛
وهذا هو المطلوب..
وإن توقفت على أَمْر آخر كان الإيمان جزءًا لسبب جَعْلها ثمرة للجزء الآخر ومعلولة
له، إذ حقيقة الأمر أنها معلولة لهما وثمرة لهما.
فتبين أن الأعمال الظاهرة الصالحة لا تكون ثمرة للإيمان الباطن ومعلولة له إلا إذا
كان موجباً لها ومُقتضياً لها، وحينئذ فالموجب لازم لموجبه، والمعلول لازم لعلته،
وإذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان؛ فلا يتصور
مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة؛ بل يلزم من
وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما يلزم من نَقْصِ هذا نَقْص هذا؛ إذ تقدير
إيمان تام في القلب بلا ظاهر
من قول وعمل كتقدير موجب تام بلا موجبه وعلة تامة بلا معلولها وهذا ممتنع..
وبهذا وغيره تَبَيّن فساد قول جهم والصالحي ومَنْ اتبعهما في الإيمان كالأشعري- في
أشهر قوليه- وأكثر أصحابه، وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة كالماتريدي ونحوه؛ حيث
جعلوه مجرد تصديق في القلب تساوى فيه العباد، وأنه إما أن يُعْدَم وإمّا أن يوجد لا
يتبعض، وأنه يمكن وجود الإيمان تاماً في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله
ورسوله طوعاً من غير إكراه، وأن ما عُلِمَ من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر فلأن
ذلك مُستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب في الأفعال000، وأن الأعمال الصالحة
الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن في القلب؛ بل يوجد إيمان القلب تاماً بدونها..
فإن هذا القول فيه خطأ من وجوه:
أحدها: أنهم أخرجوا ما في القلب- من حُب لله وخشيته ونحو ذلك- أن يكون من نفس
الإيمان.
وثانيها: جعلوا ما عُلِمَ أن صاحبه كافر- مثل إبليس وفرعون واليهود وأبي طالب
وغيرهم- أنه إنما كان كافراً لأن ذلك مُستلزِم لعدم تصديقه في الباطن، وهذا مُكابرة
للعقل والحس، وكذلك جعلوا مَنْ يبغض الرسول ويحسده كراهة دينه مُستلزِما لعدم العلم
بأنه صادق ونحو ذلك.
وثالثها: أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر- من سَبِّ الله ورسوله، والتثليث
وغير ذلك- قد يكون مُجامعاً لحقيقة الإيمان الذي في القلب، ويكون صاحبه مؤمناً عند
الله حقيقة سعيداً في الدار الآخرة، وهذا يُعْلَم فساده بالاضطرار من دين الإسلام.
ورابعها: أنهم جعلوا مَنْ لا يتكلم بالإيمان قط
مع قدرته على ذلك ولا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه وقدرته عليه قد يكون
مؤمناً بالله تام الإيمان، سعيداً في الدار الآخرة؛ وهذه الفضائح تختص بها الجهمية
دون المرجئة من الفقهاء وغيرهم.
وخامسها: وهو يلزمهم ويلزم المرجئة أنهم قالوا: إن العبد قد يكون مؤمناً، تام
الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين ولو لم يعمل خيراً- لا صلاة، ولا
صلة، ولا صِدْق حديث، ولم يدع كبيرة إلا رَكِبها- فيكون الرجل عندهم إذا حَدّث
كَذَب، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا اؤتمن خان، وهو مُصِرّ على دوام الكذب والخيانة
ونَقْض العهود، لا سَجَد لله سجدة، ولا يُحْسِن إلى أحد حسنة، ولا يؤدي أمانة، ولا
يدع ما يقدر عليه من كذب وظُلم وفاحشة إلا فعلها، وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان،
إيمانه مثل إيمان الأنبياء، وهذا يلزم كل مَنْ لم يقل إن الأعمال الظاهرة من لوازم
الإيمان الباطن، فإذا قال: (إنها من لوازمه وأن الإيمان الباطن يستلزم عملًا
صالحاً ظاهراً) كان بعد ذلك قولـه: (إن تلك الأعمال لازمة لمسمى الإيمان أو جزء
منه) نزاعاً لفظياً كما تقدم.
وسادسها: أنه يلزمهم أن مَنْ سَجَد للصليب والأوثان طوعاً، وألقى المصحف في الحش
عمداً، وَقَتَل النفس بغير حق، وقَتَلَ كل مَنْ رآه يُصلّي، وسَفَك دم كل مَنْ رآه
يحج البيت، وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين؛ يجوز أن يكون مع ذلك مؤمناً، ولياً
لله، إيمانه كإيمان النبيين والصديقين؛ لأن الإيمان الباطن إما أن يكون مُنافياً
لهذه الأمور، وإما ألا يكون منافياً..
فإن لم يكن منافياً أمكن وجودها معه، فلا يكون وجودها دالاً على عدم الإيمان
الباطن.
وإن كان منافياً للإيمان الباطن كان تَرْك هذه من مُوجَب الإيمان ومُقتضاه ولازمه،
فلا يكون مؤمناً في الباطن الإيمان الواجب إلا مَنْ تَرَك هذه الأمور، فَمَنْ لم
يتركها دَلّ ذلك على فساد إيمانه الباطن، وإذا كانت الأعمال والتروك الظاهرة لازمة
للإيمان الباطن كانت من مُوجَبه
ومُقتضاه، وكان من المعلوم أنها تَقْوى بقوته، وتزيد بزيادته، وتنقص بنُقصانه..
فإن الشيء المعلول لا يزيد إلا بزيادة مُوجَبه ومُقتضيه، ولا ينقص إلا بنقصان ذلك..
فإذا جعل العمل الظاهر مُوجَب الباطن ومقتضاه لَزِم أن تكون زيادته لزيادة الباطن،
فيكون دليلاً على زيادة الإيمان الباطن، ونَقْصه لنَقْص الباطن فيكون نَقْصه دليلاً
على نَقْص الباطن؛ وهو المطلوب.
وهذه الأمور كلها إذا تدبرها المؤمن بعقله تَبَيّن له أن مذهب السلف هو المذهب الحق
الذي لا عدول عنه، وأن مَنْ خَالَفهم لَزِمه فساد معلوم بصريح المعقول وصحيح
المنقول كسائر ما يلزم الأقوال المخالِفة لأقوال السلف والأئمة.. والله أعلم.