صفحة جديدة 1
مفقود من
قوله: (السبب الثالث:
الحسنات
الماحية) إلى (وكذلك
سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة)
السبب الرابع: الدافع للعقاب: دعاء المؤمنين للمؤمن؛ مثل صلاتهم على جنازته:
فَعْن عائشة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ميت
يُصَلِّي عليه أُمّة من المسلمين يَبْلُغون مائة كلهم يشفعون له إلا شُفِّعُوا
فيه»، وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل مسلم
يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شَفّعَهم الله فيه»
رواهما مسلم.
وهذا دعاء له بعد الموت، فلا يجوز أن تُحْمَل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب
الكبائر وكُفِّرَت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند (المنازعين)
المتنازعيْن، فعُلِمَ أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت.
السبب الخامس: ما يُعْمَل عنه من أعمال البر كالصدقة ونحوها، فإن هذا يُنْتَفع به
بنُصوص السُّنة الصحيحة الصريحة واتفاق الأئمة، وكذلك العتق والحج.
بل قد ثَبَتَ عنه في الصحيحين أنه قال: «مَنْ مات وعليه صيام صام عنه وَلِيّه».
وثَبَت مثل ذلك في الصحيح في صوم النَّذْر من وجوه أخرى، ولا يجوز أن يُعَارَض هذا
بقولـه:
﴿وَأَنْ
لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾[النجم:39]
لوجهين:
** أحدهما:
أنه قد ثَبَت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه؛
﴿وَقِهِمُ
السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[غافر:9]الآية..
- ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم؛
كما في قولـه تعالى:
﴿وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾[التوبة:103].
وقولـه سبحانه:
﴿وَمِنَ
الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ
قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾[التوبة:99].
وقولـه عز وجل:
﴿وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾[محمد:19]..
- وكدعاء المصلين للميت ولمَنْ زاروا قبره من المؤمنين.
** الثاني:
أن الآية ليس في ظاهرها أنه ليس له إلا سَعْيه، وهذا حق؛ فإنه لا يملك ويستحق إلا
سَعْي نفسه، وأمّا سَعْي غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله
ويرحمه به.
كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم.
وهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب تفعلها العباد ليُثيب أولئك على تلك
الأسباب فيرحم الجميع؛ كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما
من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وَكّلَ الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل
به: آمين ولك بمثل».
وذلك كما ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: «مَنْ صَلّى على جنازة
فَلَه قيراط، ومَنْ تَبِعَها حتى تُدْفَن فَلَه قيراطان؛ أصغرهما مثل أُحُد»؛
فهو قد يَرْحَمُ المُصَلِّي على الميت بدعائه له، ويَرْحَم الميت أيضاً بدعاء هذا
الحي له.
السبب السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة:
كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قولـه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
«شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
وقولـه صلى الله عليه وسلم: «خُيِّرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة
فاخترتُ الشفاعة لأنها أعم وأكفى؛ أترونها للمتقين؟ لا. ولكنها للمذنبين المتلوثين
الخطائين».
السبب السابع: المصائب التي يُكَفِّر الله بها الخطايا في الدنيا كما في الصحيحين
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما يصيب المؤمن من وَصَبٍ؛ ولا نَصَبٍ؛ ولا
هَمٍّ، ولا حَزَن، ولا غَمٍّ، ولا أذى- حتى الشوكة يشاكها- إلا كَفّر الله بها من
خطاياه».
السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما تُكَفَّر به
الخطايا.
السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.
السبب العاشر: رحمة الله وعَفْوه ومغفرته بلا سبب من العباد.
فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يُدْفَع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة كان
(دعواهم أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة) مُخالِف لذلك.
فصل
فهذان القولان- قول الخوارج الذين يُكَفِّرون بمُطْلَق الذنوب ويُخَلِّدون في
النار، وقول مَنْ يُخَلِّدهم في النار ويَجْزم بأن الله لا يغفر لهم إلا بالتوبة
ويقول: (ليس معهم من الإيمان شيء)- لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدين أهل الفقه
والحديث، بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع.
وكذلك قول مَنْ وَقَفَ في أهل الكبائر من غُلاة المرجئة، وقال: (لا أعلم أن أحداً
منهم يدخل النار)؛ هو أيضا من الأقوال المبتدعة.
بل السلف والأئمة متفقون على ما تواترت به النصوص من أنه لا بد أن يدخل النار قوم
من أهل القِبْلة ثم يُخْرَجون منها.
وأمّا مَنْ جَزَم بأنه
لا يدخل النار أحد مِنْ أهل القِبْلة فهذا لا أعرفه قولاً لأحد.
وبعده قول: مَنْ يقول: (ما ثَمّ عذاب أصلاً، وإنما هو تخويف بما لا حقيقة له)! وهذا
من أقوال الملاحدة الكفار، وربما احتج بعضهم بقولـه:
﴿ذَلِكَ
يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾[الزمر:16]..
فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفاً إذا كان هناك مَخُوْفٌ يمكن وقوعه
بالْمُخَوَّف، فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف، لكن يكون حاصله إيهام
الخائفين بما لا حقيقة له كما يُوْهَم الصبي الصغير، ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به
تخويف للعقلاء المميزين؛ لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مَخُوف زال الخوف..
وهذا شبيه بما
تقول الملاحدة المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: من أن الرسل خاطبوا الناس بإظهار أمور
من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتَفْهيم حال
النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد- وإن كان لا حقيقة له- فإنما
تَعَلّق لمصلحتهم في الدنيا؛ إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريق.
وهذا القول مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل؛ فلو كان الأمر كذلك لكان
خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علموا زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما
يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة من الإسماعيلية والنُّصيرية ونحوهم..
فإن البارع منهم في العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي وتباح له
المحظورات وتسقط عنه الواجبات؛ فتظهر أضغانهم وتنكشف أسرارهم ويعرف عموم الناس
حقيقة دينهم الباطن حتى سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون.
فلو كان- والعياذ بالله- دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه ولَظَهَر باطنه، وكان
عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية..
ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة-رضوان الله عليهم- الذين كانوا أعلم الناس بباطن
الرسول وظاهره وأخبر الناس بمقاصده ومراداته كانوا أعظم الأمة لزوماً لطاعة أَمْره-
سراً وعلانية- ومحافظةً على ذلك إلى الموت، وكل مَنْ كان منهم إليه أقرب وبه أخص
وبباطنه أعلم- كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما- كان أعظمهم لزوماً لطاعته سراً
وعلانية ومحافظةً على أداء الواجب واجتناب المحرم باطناً وظاهراً..
وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة الذين يجعلون فِعْل المأمور وتَرْك
المحظور واجباً على السالك حتى يصير عارفاً مُحَقِّقاً في زعمهم؛ وحينئذ يسقط عنه
التكليف، ويتأولون على ذلك قولـه تعالى:
﴿وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾[الحجر:99]
زاعمين أن اليقين- هو ما يدّعونه من المعرفة-، واليقين هنا: الموت وما بعده...
كما قال تعالى عن أهل
النار:
﴿وَكُنَّا
نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾[المدثر:45]
﴿وَكُنَّا
نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾[المدثر:46]
﴿حَتَّى
أَتَانَا الْيَقِينُ﴾[المدثر:47]
﴿فَمَا
تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾[المدثر:48].
وقال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعبادةِ المؤمنين أجلاً دون الموت وتلا هذه
الآية.
ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي عثمان بن مظعون: «أما عثمان بن مظعون
فقد أتاه اليقين من ربه».
وهؤلاء قد يشهدون القَدَر أولاً، وهي الحقيقة الكونية، ويظنون أن غاية العارف أن
يشهد القَدَر ويَفْنَى عن هذا الشهود، وذلك المشهد لا تَمَيُّز فيه بين المأمور
والمحظور، ومحبوبات الله ومكروهاته، وأوليائه وأعدائه.
وقد يقول أحدهم: العارف
شَهِدَ أولاً الطاعة والمعصية، ثم شَهِدَ طاعة بلا معصية- يريد بذلك طاعة القَدَر-؛
كقول بعض شيوخهم: أنا كافر بربٍّ يُعصى.
وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام.
فقال: إن كان عَصَى الأَمْر فقد أطاع الإرادة.
ثم ينتقلون إلى المشهد الثالث لا طاعة ولا معصية؛ وهو مشهد أهل الوحدة القائلين
بوحدة الوجود؛ وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد
الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان، وفيهما من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى
ومُشركي العرب والله أعلم.
فصل
ثم بعد ذلك تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعاً كثيراً؛ منه: لفظي، وكثير
منه: معنوي..
فإن أئمة الفقهاء لم ينازعوا في شيء مما ذكرناه من الأحكام، وإن كان بعضهم أعلم
بالدين وأقوم به من بعض، ولكن تَنَازُعهم في الأسماء كتنازعهم في الإيمان: هل يزيد
وينقص؟ وهل يُستثنى فيه أم لا؟ وهل الأعمال من الإيمان أم لا؟ وهل الفاسق الملي
مؤمن كامل الإيمان أم لا؟
والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين وجمهور السلف- وهو مذهب أهل الحديث، وهو منسوبٌ
إلى أهل السُّنة-: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية،
وأنه يجوز الاستثناء فيه..
كما قال عُمَيْر بن حَبِيب الخُطَمي وغيره من الصحابة: الإيمان يزيد وينقص.
فقيل له: وما زيادته وما نُقصانه؟
فقال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبّحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيّعنا
فذلك نقصانه.
فهذه الألفاظ المأثورة عن جمهورهم.
وربما قال بعضهم وكثير من المتأخرين: قول، وعمل، ونيّة.
وربما قال آخر: قول، وعمل، ونيّة، واتّباع السُّنة.
وربما قال: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان- أي بالجوارح-.
وروى بعضهم هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النُّسخة المنسوبة إلى أبي
الصلت الهروي عن علي ابن الرضا وذلك من الموضوعات على النبي صلى الله عليه وسلم
باتفاق أهل العلم بحديثه.
وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي..
ولكن القول المطلق والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل
القلب والجوارح؛
وقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يُسمى قولاً إلا
بالتقييد، كقولـه تعالى:
﴿يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾[الفتح:11].
وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله.
فقول السلف: يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر..
ولكن لَمّا كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية
في ذلك؛ قال بعضهم: ونية.
ثم بَيّن آخرون: أن مُطلَق القول والعمل والنيّة لا يكون مقبولاً إلا بموافقة
السُّنة، وهذا حق أيضاً؛
فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليُبَيّنوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذِكْر
صفات الأقوال والأعمال.
وكذلك قول مَنْ قال: اعتقاد بالقلب؛ وقول
باللسان، وعمل بالجوارح؛ جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك
اعتقاد القلب، ولا بد أن يدخل في قولـه: (اعتقاد القلب) أعمال القلب المقارنة
لتصديقه مثل حب الله، وخشية الله، والتوكل على الله ونحو ذلك..
فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أَوْلَى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف
كلها.
وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النُّقصان عليه؛ لأنهم
وجدوا ذِكْر الزيادة في القرآن، ولم يجدوا ذِكْر النقص؛ وهذا أحد الروايتين عن
مالك..
والرواية الأخرى عنه وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم: أنه يزيد وينقص.
وبعضهم عَدَل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل؛ فقال أقول: الإيمان يتفاضل
ويتفاوت؛ ويُرْوَى هذا عن ابن المبارك، وكان مقصوده: الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع
إلى معنى لا ريب في ثبوته.
وأنكر حَمّاد بن أبي سليمان ومَنْ اتّبعه: تَفَاضُل الإيمان، ودخول الأعمال فيه،
والاستثناء فيه؛ وهؤلاء مرجئة الفقهاء.
وأما إبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة شيخ حمّاد بن أبي سليمان، وأمثاله، ومَنْ قبله
من أصحاب ابن مسعود (كعلقمة والأسود)؛ فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة..