صفحة جديدة 1
ومَنْ تَدَبّر هذا عَلِمَ أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمناً مخطئاً
جاهلاً ضالاً عن بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منافقاً
زنديقاً يُظْهِر خلاف ما يُبْطِن.
وهنا أَصْلٌ آخر؛ وهو أنه قد جاء في الكتاب والسُّنة وَصْف أقوام بالإسلام دون
الإيمان..
فقال تعالى:
﴿قَالَتِ
الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا
يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[الحجرات:14].
وقال تعالى في قصة قوم لوط:
﴿فَأَخْرَجْنَا
مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذاريات:35]
﴿فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[الذاريات:36]،
وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الآية تقتضي أن مُسمى الإيمان والإسلام واحد،
وعَارضوا بين الآيتين؛ وليس كذلك؛ بل هذه الآية توافق الآية الأولى لأن الله أخبر
أنه أخرج مَنْ كان فيها مؤمناً وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين، وذلك لأن
امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين ولم تكن من الْمُخرَجين الذين نجوا؛ بل كانت
من الغابرين الباقين في العذاب، وكانت في الظاهر مع زوجها على دينه، وفي الباطن مع
قومها على دينهم، خائنةً لزوجها تدل قومها على أضيافه.
كما قال الله تعالى فيها:
﴿ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾[التحريم:10]؛
وكانت خيانتهما لهما في الدين لا في الفراش، فإنه ما بغت امرأة نبي قط؛ إذ نكاح
الكافرة قد يجوز في بعض الشرائع، ويجوز في شريعتنا نكاح بعض الأنواع وهُنّ
الكتابيات، وأما نكاح البَغِيّ فهو: دياثة، وقد صان الله النبي عن أن يكون ديوثاً،
ولهذا كان الصواب قول مَنْ قال من الفقهاء: بتحريم نكاح البَغِيّ حتى تتوب.
والمقصود: أن امرأة لوط لم تكن مؤمنة، ولم تكن من الناجين المْخُرَجين؛ فلم تدخل في
قولـه:
﴿فَأَخْرَجْنَا
مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذاريات:35]،
وكانت من أهل البيت المسلمين وممَّنْ وُجِدَ فيه؛ ولهذا قال تعالى:
﴿فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[الذاريات:36].
وبهذا تظهر حِكمة القرآن حيث ذَكَر الإيمان لما أخبر بالإخراج، وذَكَر الإسلام لما
أخبر بالوجود.
وأيضاً فقد قال تعالى:
﴿إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾[الأحزاب:35]
فَفَرَّقَ بين هذا وهذا.
فهذه ثلاثة مواضع في القرآن.
وأيضاً فقد ثبت في الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص قال: «أعطى رسول الله صلى الله
عليه وسلم رجالاً ولم يُعطِ رجلاً، فقلت: يا رسول الله! أعطيت فلانا وفلاناً
وتركت فلاناً وهو مؤمن؟! فقال: «أو مسلم» قال: «ثم غلبني ما أجد» فقلت: يا رسول
الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً وهو مؤمن؟ فقال: «أو مسلم» مرتين أو
ثلاثاً، وذكر في تمام الحديث أنه يُعطي رجالاً ويَدَع مَنْ هو أحب إليه منهم؛ خشية
أن يكبهم الله في النار على مناخرهم».
قال الزهري: فكانوا يرون أن الإسلام (الكلمة) والإيمان (العمل)..
فأجاب سعداً بجوابين:
أحدهما: أن هذا الذي شهدتَ له بالإيمان قد يكون مسلماً لا مؤمناً.
الثاني: إن كان مؤمناً وهو أفضل من أولئك فأنا قد أُعطي مَنْ هو أضعف إيماناً؛ لئلا
يحمله الحرمان على الرِّدَّة فيكبه الله في النار على وجهه؛ وهذا مِن إعطاء المؤلفة
قلوبهم.
وحينئذ فهؤلاء الذين أثبت لهم القرآن والسُّنة الإسلام دون الإيمان هل هم المنافقون
الكفار في الباطن؟ أم يدخل فيهم قوم فيهم بعض الإيمان؟
هذا مما تنازع فيه أهل العلم على اختلاف أصنافهم؛
فقالت طائفة من أهل الحديث والكلام وغيرهم: بل هم المنافقون الذين استسلموا
وانقادوا في الظاهر ولم يدخل إلى قلوبهم شيء من الإيمان..
وأصحاب هذا القول قد يقولون: الإسلام المقبول هو الإيمان؛ ولكن هؤلاء أسلموا ظاهراَ
لا باطناً، فلم يكونوا مسلمين في الباطن ولم يكونوا مؤمنين.
وقالوا: إن الله سبحانه يقول:
﴿وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾[آل
عمران:85]،
بيانه: كل مسلم مؤمن، فما ليس من الإسلام فليس مقبولاً، يوجب أن يكون الإيمان منه.
وهؤلاء يقولون: كل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن إذا كان مسلماً في الباطن.
وأما الكافر المنافق في الباطن: فإنه خارج عن المؤمنين المستحقين للثواب باتفاق
المسلمين.
ولا يُسمون بمؤمنين عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا عند أحد من طوائف المسلمين،
إلا عند طائفة من المرجئة- وهم الكرامية- الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق
في الظاهر، فإذا فَعَل ذلك كان مؤمناً وإن كان مُكَذِّباً في الباطن، وسلموا أنه
مُعَذَّب مُخَلَّد في الآخرة؛ فنازعوا في اسمه لا في حُكْمه.
ومن الناس مَنْ يحكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة وهو غلط عليهم.
ومع هذا فتسميتهم له مؤمناً بدعة ابتدعوها، مُخالِفة للكتاب
والسُّنة وإجماع سلف الأمة..
وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية دون سائر مقالاتهم.
قال الجمهور من السلف والخلف: بل هؤلاء الذين وُصِفُوا بالإسلام دون الإيمان قد لا
يكونون كفاراً في الباطن بل معهم بعض الإسلام المقبول.
وهؤلاء يقولون: الإسلام أوسع من الإيمان؛ فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.
ويقولون: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا
يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» إنه يخرج من
الإيمان إلى الإسلام، ودَوَّروا للإسلام دارةً، وَدَوّروا للإيمان دارةً أصغر منها
في جوفها، وقالوا: إذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يُخْرِجه من الإسلام إلى
الكفر.
ودليل ذلك أن الله تبارك وتعالى قال:
﴿قَالَتِ
الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا
يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[الحجرات:14]
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ﴾[الحجرات:15]
﴿قُلْ
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا
فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الحجرات:16]
﴿يَمُنُّونَ
عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ
يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[الحجرات:17]؛
فقد قال تعالى:
﴿لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ﴾[الحجرات:14]؛
وهذا الحرف- أي (لَمَّا)-
يُنْفى به ما قَرُبَ وجوده وانْتُظِر وجوده ولم يوجد بعد، فيقول لِمَنْ ينتظر
غائباً: (لَمّا)، ويقول: لَمّا يجئ بعْد.
فلما قالوا: {آمَنَّا}
قيل: {لَمْ
تُؤْمِنُوا}
بَعْدُ، بل الإيمان مَرْجُو مُنْتَظَر منهم.
ثم قال:
﴿وَإِنْ
تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ﴾[الحجرات:14]
أي: لا ينقصكم من أعمالكم الْمُثبتة شيئاً (أي في هذه الحال)؛ فإنه لو أرادوا (طاعة
الله ورسوله بعد دخول الإيمان في قلوبهم) لم يكن في ذلك فائدة لهم ولا لغيرهم؛ إذ
كان من المعلوم (أن المؤمنين يُثَابُون على طاعة الله ورسوله) وهُم كانوا مُقِرّين
به.
فإذا قيل لهم: (الْمُطاع يُثاب) والمراد به (المؤمن الذي يُعْرَف أنه مؤمن) لم يكن
فيه فائدة جديدة.
وأيضاً فالخطاب لهؤلاء الْمُخاطَبين قد أخبر عنهم
(لَمّا
يدخل في قلوبهم) وقيل لهم:
﴿وَإِنْ
تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾[الحجرات:14]؛
فلو لم يكونوا في هذه الحال مُثابين على طاعة الله ورسوله لكان خلاف مدلول الخطاب،
فبَيّن ذلك أنه وَصْف المؤمنين الذين أخرج هؤلاء منهم فقال تعالى:
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ﴾[الحجرات:15]،
وهذا نَعْت محققِ الإيمان؛ لا نعت مَنْ معه مثقال ذرة من إيمان كما في قولـه تعالى:
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ﴾[الأنفال:2]
﴿الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[الأنفال:3]
﴿أُوْلَئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾[الأنفال:4]
وقولـه تعالى:
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ
عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾[النور:62].
ومنه قولـه صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن».. وأمثال ذلك.
فدلّ البيان على أن الإيمان المنفي عن هؤلاء الأعراب: هو هذا الإيمان الذي نُفِي عن
فُسّاق أهل القبلة الذين لا يخلدون في النار بل قد يكون مع أحدهم مثقال ذرة من
إيمان؛ ونَفْي هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يُخَلَّدُ صاحبه في النار.
وبِتَحَقُّق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع، ويُعْلَم أن في المسلمين
قسماً ليس هو منافقاً محضاً في الدرك الأسفل من النار وليس هو من المؤمنين الذين
قيل فيهم:
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ﴾[الحجرات:15]،
ولا من الذين قيل فيهم:
﴿أُوْلَئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾[الأنفال:4]
فلا هم منافقون ولا هم من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقاً ولا من الذين يدخلون الجنة
بلا عقاب، بل له طاعات ومعاص وحسنات وسيئات ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في
النار وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار.
وهذا القِسْم قد يُسميه بعض الناس: (الفاسق الملي)؛ وهذا مما تنازع الناس في اسمه
وحُكمه، والخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين..