الاعراض عن الرسول
كما قال تعالى وان تلووا اوتعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا
وقد اشتملت هده الاية على اسرار عظيمة يجب التنبيه على بعضها لشدة الحاجة اليها
قال تعالى يا ايها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم او الوالدين والاقربين ان يكن غنيا او فقيرا فالله اولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا
فامر سبحانه بالقيام بالقسط وهو العدل في هذه الاية وهذا امر بالقيام به في حق كل احد عدوا كان او وليا واحق ما قام له العبد بقصد الاقوال والاراء والمذاهب اذ هي متعلقة بامر الله وخبره
فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لامر الله مناف لما بعث به رسوله
والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في امته وامنائه بين اتباعه ولايستحق اسم الامانة الا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده
(1/31)
واولئك هم الوارثون حقا
لامن يجعل اصحابه ونحلته ومذهبه معيارا على الحق وميزانا له يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل احد وهو في هدا الباب اعظم فرضا واكبر وجوبا شهداء الله
ثم قال شهداء الله الشاهد هو المخبر فان اخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول وان اخبر بباطل فهو شاهد زور
وامر تعالى ان يكون شهيدا له مع القيام بالقسط وهذا يتضمن ان تكون الشهادة بالقسط وان تكون لله لا لغيره
وقال في الاية الاخرى كونوا قوامين لله شهداء بالقسط فتضمنت الآيتان امورا اربعة
احدهما : القيام بالقسط
الثاني : ان يكون لله
الثالث : الشهادة بالقسط
الرابع : ان تكون لله
(1/32)
واحتضنت آية النساء بالقسط والشهادة لله
وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط لسر عجيب من اسرار القران ليس هذا موضع ذكره
ثم قال تعالى ولو على انفسكم او الوالدين او الاقربين فامر سبحانه ان يقام بالقسط ويشهد على كل احد ولو كان احب الناس الى العبد فيقوم بالقسط على نفسه ووالديه الذين هما اصله واقاربه الذين هم اخص به والصديق من سائر الناس فان كان ما في العبد من محبة لنفسه ولوالديه واقربيه يمنعه من القيام عليهم بالحق ولاسيما اذا كان الحق لمن يبغضه ويعاديه قبلهم فانه لا يقوم به في هذا الحال الا من كان الله ورسوله احب اليه من كل ما سواهما
وهذا يمتحن به العبد ايمانه فيعرف منزلة الايمان من قلبه ومحله منه وعكس هذا عدل العبد في اعدائه ومن يجفوه فانه لاينبغي ان يحمله بغضه لهم ان يحيف عليهم كما لا ينبغي ان يحمله حبه لنفسه ووالديه واقاربه على ان يترك القيام عليهم بالقسط فلا يدخله ذلك البغض في باطل ولا يقصر به هذا الحب عن الحق كما قال السلف : العادل هو الذي ذا غضب لم يدخله غضبه في باطل واذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحق
اشتملت الايتان على هذين الحكمين وهما القيام بالقسط والشهادة به على الاولياء والاعداء
ثم قال تعالى ان يكن غنيا وفقيرا فالله اولى بهما منكم
(1/33)
هو ربهما ومولاهما وهما عبيده كما انكم عبيده فلا تحابوا غنيا لغناه ولا فقيرا لفقره فان الله اولى بهما منكم
وقد يقال فيه معنى اخر احسن من هذا وهو انهم ربما خافوا من القيام بالقسط واداء الشهادة على الغني والفقير
اما الغني فخوفا على ماله واما الفقير فلا عدامه وانه لاشئ له فتتساهل النفوس في القيام عليه بالحق فقيل لهم : والله اولى بالغني والفقير منكم اعلم بهذا وارحم بهذا فلا تتركوا اداء الحق والشهادة على غني ولا فقير
ثم قال تعالى فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل
وقوله تعالى ان تعدلوا منصوب الموضع لانه مفعول لاجله وتقديره عند البصريين كراهية ان تعدلوا او حذر ان تعدلوا فيكون اتباعكم للهوى كراهية العدل او فرارا منه وعلى قول الكوفيين التقدير ان لا تعدلوا وقول البصريين احسن واظهر اللي والاعراض
ثم قال تعالى وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا ذكر سبحانه السببين الموجبين لكتمان الحق محذرا منهما ومتوعدا عليهما
(1/34)
احدهما : اللي
والاخر : الاعراض
فإن الحق اذا ظهرت حجته ولم يجد من يروم دفعها طريقا الى دفعها اعرض عنها وامسك عن ذكرها فكان شيطانا اخرس وتارة يلويها ويحرفها
اللي مثال الفتل وهو التحريف
وهو نوعان : لي في اللفظ ولي في المعنى
فاللي في اللفظ ان يلفظ بها على وجه لايستلزم الحق اما بزيادة لفظه اونقصانها او ابدالها بغيرها
ولي في كيفية ادائها وايهام السامع لفظا وارادة غيره كما كان اليهود يلوون السنتهم بالسلام على النبي صلى الله عليه و سلم وغيره فهذا احد نوعي اللي
والنوع الثاني منه : لي المعنى وهو تحريفه وتاويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم وبجهالة مالم يرده أو يسقط منه لبعض المراد به ونحو هذا من لي المعاني فقال تعالى : وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا
ولما كان الشاهد مطالبا باداء الشهادة على وجهها فلا يكتمها ولا يغيرها كان الاعراض نظير الكتمان
(1/35)
واللي نظير تغييرها وتبديلها
فتأمل ما تحت هذه الاية من كنوز العلم
والمقصود : ان الواجب الذي لايتم الايمان بل لايحصل مسمى الايمان الابه مقابلة النصوص بالتلقي والقبول والاظهار لها ودعوة الخلق اليها ولا تقابل بالاعتراض تارة وباللي اخرى الخيرة لله
وقال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم فدل هذا على انه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسالة من المسائل حكم طلبي او خبري فانه ليس لاحد ان يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب اليه وان ذلك ليس لمؤمن ولامؤمنة اصلا فدل على ان ذلك مناف للايمان
(1/36)
موقف الائمة من السنة
وقد حكى الشافعي رضي الله تعالى عنه اجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على ان من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن له ان يدعها لقول احد ولم يسترب احد من ائمة الاسلام في صحة ماقاله الشافعي رضي الله تعالى عنه
فان الحجة الواجب اتباعها على الخلق كافة انما هو قول المعصوم الذي لاينطق عن الهوى واما اقوال غيره فغايتها ان تكون سائغة الاتباع فضلا عن ان يعارض بها النصوص وتقدم عليها عياذا بالله من الخذلان
وقال تعالى : واطيعوا الله واطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين
فاخبر سبحانه ان الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها فانه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه وليس هذا من باب دلالة المفهوم كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن انه محتاج في تقريره الدلالة منه لاتقرير كون المفهوم حجة بل هذا من الاحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها اذ ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه والا لم يكن شرطا له
(1/37)
اذا ثبت هذا : فالاية نص على انتفاء الهداية عند عدم طاعته
وفي اعادة الفعل في قوله تعالى : واطيعوا الله واطيعوا الرسول دون الاكتفاء بالفعل الاول سر لطيف وفائدة جليلة سنذكرها عن قريب ان شاء الله تعالى
وقوله تعالى فإن تولوا فانما عليه ما حمل
الفعل للمخاطبين واصله فان تتولوا فحذفت احدى التاءين تخفيفا
والمعنى : انه قد حمل اداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم
كما ذكره البخاري في صحيحة عن الزهري قال : من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم
فان تركتم انتم ما حملتموه من الايمان والطاعة فعليكم لا عليه
فانه لم يحمل ايمانكم وانما حمل تبليغكم
وانما حمل اداء الرسالة اليكم وان تطيعوه تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين ليس عليه هداهم وتوفيقهم
وقال تعالى يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تاويلا
(1/38)
النداء بالايمان
فامر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله
وافتتح الاية بالنداء باسم الايمان المشعر بان المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا به وخوطبوا به كما يقال : يا من انعم الله عليه واغناه من فضله احسن كما احسن الله اليك : ويا ايها العالم علم الناس ما ينفعهم ويا ايها الحاكم احكم بالحق ونظائره
ولهذا كثيرا ما يقع الخطاب في القران بالشرائع كقوله تعالى
ياايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام
يا ايها الذين امنوا اذا نودي للصلاة يا ايها الذين امنوا اوفوا بالعقود
ففي هذا اشارة الى انكم إن كنتم مؤمنين فالايمان يقتضي منكم كذا وكذا فانه من موجبات الايمان وتمامه
(1/39)
ثم قال تعالى : يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فقرن بين طاعة الله والرسول وطاعة اولي الامر وسلط عليهما عاملا واحدا وقد كان ربما يسبق الى الوهم ان الامر يقتضي عكس هذا فانه من يطع الرسول فقد اطاع الله ولكن الواقع هنا في الاية المناسب
وتحته سر لطيف وهو دلالته على ان ما يأمر به رسوله يجب طاعته فيه وان لم يكن مامورا به بعينه في القران طاعة الرسول مفردة ومقرونة فلا يتوهم متوهم ان ما يامر به الرسول ان لم يكن في القران والا فلا تجب طاعته فيه
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم يوشك رجل شبعان متكئ على اريكته ياتيه الامر من امري فيقول بيننا وبينكم كتاب الله تعالى ما وجدنا فيه من شئ اتبعناه الا واني اوتيت الكتاب ومثله معه ح طاعة اولي الامر
اما اولو الامر فلا تجب طاعة احدهم الا اذا اندرجت تحت طاعة الرسول لاطاعة مفردة مستقلة كما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال على المرء السمع والطاعة فيما احب وكره مالم يؤمر بمعصية الله تعالى فادا امر بمعصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة ح
(1/40)
فتامل كيف اقتضت اعادة هذا المعنى قوله تعالى : فردوه الى الله والرسول ولم يقل والى الرسول فان الرد الى القران رد الى الله والرسول فما حكم به الله تعالى هو بعينه حكم رسوله وما يحكم به الرسول صلى الله عليه و سلم هو بعينه حكم الله
فادا رددتم الى الله ما تنازعتم فيه يعني كتابة فقد رددتموه الى رسوله وكذلك اذا رددتموه الى رسوله فقد رددتموه الى الله وهذا من اسرار القران من هم اولو الامر :
وقد اختلفت الرواية عن الامام احمد رحمه الله تعالى في اولي الامر وعنه فيهم رحمه الله تعالى روايتان :
احداهما : انهم العلماء
والثانية : انهم الامراء
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الاية والصحيح انها متناولة للصنفين جميعا فإن العلماء والامراء ولاة الامر الذي بعث الله به رسوله فان العلماء ولاته حفظا وبيانا وذبا عنه وردا على من الحد فيه وزاغ عنه وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين فيالها من وكالة اوجبت طاعتهم والانتهاء الى امرهم وكون الناس تبعا لهم
(1/41)
والامراء ولانه قياما وعناية وجهادا والزاما للناس به واخذهم على يد من خرج عنه
وهذان الصنفان هما الناس وسائر النوع الانساني تبع لهما ورعية
ثم قال تعالى فان تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر
وهذا دليل قاطع على انه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله الى الله ورسوله لا الى احد غير الله ورسوله فمن احال الرد على غيرهما فقد ضاد امر الله ومن دعا عند النزاع الى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية فلا يدخل العبد في الايمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون الى الله ورسوله
ولهذا قال الله تعالى ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وهذا مما ذكرنا انفا انه شرط ينتفي المشروط بانتفائه فدل على ان من حكم غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجا من مقتضى الايمان بالله واليوم الاخر وحسبك بهذه الاية العاصمة القاصمة بيانا وشفاء فانها قاصمة لظهور المخالفين لها عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين ما امرت به
قال الله تعالى ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وان الله لسميع عليم
(1/42)
وقد اتفق السلف والخلف على ان الرد الى الله هو الرد الى كتابه والرد الى الرسول هو الرد اليه في حياته والرد الى سنته بعد وفاته سعادة الدارين
ثم قال تعالى : ذلك خيرا واحسن تاويلا أي هذا الذي امرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي واولياء الامر ورد ما تنازعتم فيه الى والى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادكم وهو سعادتكم في الدارين فهو خير لكم واحسن عاقبة
فدل هذا على ان طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلا واجلا ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم ان كل شر في العالم سببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته وكل خير في العالم فانه بسبب طاعة الرسول
وكذلك شرور الاخرة والامها وعذابها انما هو من موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها فعاد شر الدنيا والاخرة الى مخالفة الرسول وما يترتب عليه فلو ان الناس اطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الارض شر قط وهذا كما انه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الارض فكذلك هوفي الشر والالم والغم الذي يصيب العبد في نفسه فانما هو بسبب مخالفة الرسول ولان طاعته هي الحصن الذي من دخله كان من الامنين والكهف الدي من لجأ إليه كان من الناجين
(1/43)
فعلم ان شرور الدنيا والاخرة انما هو الجهل بما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم والخروج عنه
وهذا برهان قاطع على انه لا نجاة للعبد ولاسعادة الا بالاجتهاد في معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم علما والقيام به عملا كمال السعادة
وكمال هذه السعادة بامرين اخرين
احدهما : دعوة الخلق اليه
والثاني صبره واجتهاده على تلك الدعوة الكمال الانساني
فانحصر الكمال الانساني على هذه المراتب الاربعة
احدهما : العلم بماجاء به الرسول صلى الله عليه و سلم
والثانية : العمل به
والثالثة : نشره في الناس ودعوتهم اليه
والرابعة : صبره وجهاده في ادائه وتنفيذه ومن تطلعت همته الى معرفة ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم واراد اتباعهم فهذه طريقهم حقا :
فان شئت وصل القوم فاسلك سبيلهم ... فقد وضحت للسالكين عيانا
(1/44)
وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم : قل ان ضللت فانما اضل على نفسي وان اهتديت فما يوحي الى ربي انه سميع قريب