الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات:10].
وقال تعالى: وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم [الأنفال:63].
وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [التوبة:71].
في هذه الآيات الكريمة يأمر الله تعالى جميع المؤمنين بالتآخي والتحاب والتراحم، ويبين سبحانه أن أخوة الإيمان أعظم حقاً من أخوة النسب إذا وقع التعارض بين الأخوّتين، فلو كان لمسلم أخ كافر من النسب فإنه يفضّل عليه كل مسلم ولو لم يربط بينهما النسب.
وهذا المعنى عبر عنه مصعب بن عمير حين قال لرجل من الأنصار في غزوة بدر رآه قد أسر أخاه أبا عزيز بن عمير قال: اشدد وثاقه فإن له أماً غنية ستفديه، فقال أبو عزيز لمصعب: أهكذا وصاتك بأخيك؟ فقال مصعب: (إنه أخي دونك) [رواه ابن إسحاق وابن هشام].
ولقد كان من الحكم العظيمة لأركان الإسلام الخمسة إرساء دعائم الأخوة الإيمانية، فالشهادتان هما الشعار الجامع للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
والصلاة شرع أداؤها في جماعة ليجتمع المسلمون في الصلوات الخمس اجتماعاً صغيراً ثم يأتي الاجتماع الأكبر لأهل الحي في صلاة الجمعة ثم اجتماع أكبر لأهل البلد في صلاة العيد والغرض من هذه الاجتماعات أن يتعارف المسلمون وأن يتآلفوا ويتعرفوا على حوائج من يحتاج منهم إلى مساعدة.
ثم الزكاة تؤدي إلى التآخي والتراحم بين الأغنياء والفقراء.
ثم الصيام صورة لاجتماع المسلمين على شعيرة ظاهرة يمسكون عن الطعام في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد، ويشعر الصائمون بحاجة الجائعين.
ثم الحج اجتماع للمسلمين يضم وفوداً من كل فج عميق من فجاج الأرض فيتعرف المسلمون من خلاله على أحوال إخوانهم في شتى بقاع الأرض.
ولقد كثر التعبير عن المسلم بالأخ في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه حتى إن الله سبحانه سمي ولي القتيل أخاً للقاتل فقال تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف [البقرة].
وسمي أهل الجنة إخواناً فقال: إخواناً على سرر متقابلين [الحجر].
وقال تعالى: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه [الحجرات].
وقال: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً [آل عمران].
ويقول : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» [رواه البخاري].
ويقول : «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه» [ابن حبان وأبو نعيم عن أبي هريرة، الصحيحة 33].
وقد آخى النبي بين أصحابه مرتين، مرة بمكة آخى فيها بين المهاجرين، وكان الغرض من هذه المؤاخاة – كما بين الحافظ ابن حجر في الفتح (15/129) أن بعض المهاجرين كان أكثر مالاً أو أقوى عشيرة، ليحسن الأعلى إلى الأدنى وينصره، وليعين الأدنى الأعلى فيما يحتاج إلى الإعانة فآخى النبي بينه وبين علي بن أبي طالب حيث كان يقول بتربية علي منذ صباه وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة رضي الله عنهما لأن زيداً كان مولاهم.
ثم كانت المؤاخاة في المدينة بين المهاجرين والأنصار، وكانوا مائة وخمسين من كل فريق، وكانت المؤاخاة على الحق والمواساة والتوارث بعد الممات دون ذوي الأرحام كما روى ذلك البخاري عن ابن عباس، ثم نسخ التوارث وبقيت المؤاخاة على المواساة والنصيحة.
ومما روي في أمر التطبيقات العملية لهذه المؤاخاة، قصة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، حين قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، فقال له عبد الرحمن: (لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟) فدل على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم أخذ يتردد على السوق، يبيع ويشتري حتى استغنى بماله عن مال أخيه سعد، وتزوج امرأة من الأنصار، أمهرها بنواة من ذهب، وطلب منه الرسول أن يولم ولو بشاة بهذه المناسبة.
آخى الرسول بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويستأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، وانخرطوا في الحياة، وعرفوا وسائل اكتساب الرزق، أبطل الله التوارث بالمؤاخاة، وأبقى أخوة المؤمنين، وأنزل في ذلك: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم، وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً كان ذلك في الكتاب مسطوراً.
وكان ذلك في وقعة بدر، وروي أنه كان بعد أحد. روى البخاري ما ذكر ابن عباس أن ما ألغي من نظام المؤاخاة هو الإرث، أما النصر والرفادة والنصيحة فباقية، ويمكن أن يوصى ببعض الميراث بين المتآخين، وإلى هذا المعنى ذهب النووي.
نسأل الله تعالى أن يؤلف بين قلوب المسلمين وأن يجمع كلمتهم على الحق، اللهم آمين.
|