صفحة جديدة 1
النَّوع الرَّابع والثَّلاثون: نَاسخَ الحَديثِ ومَنْسُوخه
هو فَنٌّ مُهمٌّ صعبٌ، وكانَ للشَّافعيِّ فيه يدٌ طُولى،
فقد قال الإمام أحمد لابن وارة، وقد قدم من مصر: كتبتَ كُتب الشَّافعي؟ قال: لا.
قال: فرَّطت، ما علمنا المُجْمل من المُفسَّر، ولا ناسخ الحديث من منسوخه، حتَّى
جالسنا الشَّافعي.
وسَابقةٌ أُولى، وأدْخلَ فيه بعضُ أهل الحَديثِ ما ليسَ مِنْهُ لخَفَاء مَعْناهُ،
والمُخْتار: أنَّ النَّسخ رَفْعُ الشَّارع حُكمًا منهُ مُتقدِّمًا بحكم منهُ
مُتأخِّر.
فمنهُ ما عُرِف بِتَصْريح رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: كـ: «كُنتُ نهيتكُم عن
زِيَارة القُبُور فَزُوروها».
ومنهُ ما عُرِفَ بقول الصَّحَابي كـ: كانَ آخرُ الأمْرينِ مِنْ رَسُول الله صلى
الله عليه وسلم تَرْكُ الوضُوء مِمَّا مسَّت النَّار.
ومنهُ مَا عُرِفَ بالتاريخ.
كحديث شدَّاد بن أوْس مرفوعًا: «أفطرَ الحَاجمُ والمَحْجُوم» رواه أبو داود
والنَّسائي.
ذكر الشَّافعي أنَّه مَنْسُوخ بحديث ابن عبَّاس: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم
احتجمَ وهو مُحْرم صائم. أخرجه مسلم، فإنَّ ابن عبَّاس إنَّما صحبهُ مُحرمًا في
حجَّة الوداع سَنَة عَشْر، وفي بعض طُرق حديث شدَّاد أنَّ ذلك كان زمن الفَتْح
سَنَة ثمان
ومنهُ مَا عُرف بدلالة الإجْمَاع، كحديثِ قَتْل شَاربِ الخَمْر في الرَّابعة،
والإجْمَاع لا يُنْسخ ولا يَنْسخ، لكن يدلُّ على نَاسخٍ.
وهو ما رَواه أبو داود والتِّرمذي من حديث مُعَاوية: «مَنْ شَرِبَ الخَمْر
فاجلدُوه، فإن عَادَ في الرَّابعة فاقتلُوه ...».
قال المُصنِّف في «شرح مسلم»: دلَّ الإجْمَاع على نَسْخه.
النَّوعُ الخَامسُ والثَّلاثون: مَعْرفةُ المُصَحَّف
هو فنٌّ جَليلٌ، وإنَّما يُحقِّقهُ الحُذَّاق، والدَّارَقُطْني منهم، ولهُ فيه
تَصْنيفٌ مُفيدٌ،
وعن أحمد أنَّه قال: ومَنْ يعرى عن الخطأ والتصحيف
ويَكُون تَصْحيف لفْظٍ وبَصَرٍ في الإسْنَاد والمَتْن:
فمن الإسْنَاد: العَوَّام بن مُرَاجم، بالرَّاء والجيم، صحَّفهُ ابن مَعِين، فقالهُ
بالزَّاي والحَاء.
ومن الثَّاني: حديثُ زَيْد بن ثابت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم احتَجَرَ في
المَسْجدِ. أي اتخذَ حجْرَة مِنْ حَصيرٍ، أو نحوه يُصلِّي فيها، صحَّفهُ ابن
لَهِيعة فقال: احتجَمَ.
وحديثُ: «مَنْ صَامَ رَمَضانَ، وأتبعَهُ سِتًّا من شَوَّال...» صَحَّفهُ الصُّولي
فقالَ: شيئًا، بالمُعجمة.
وحديث أبي ذر: «تُعين صَانعًا...» بالمهملة والنون، صحَّفه هِشَام بن عروة
بالمُعجمة والتَّحتية.
وحديث مُعاوية: لعنَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الَّذين يُشَقِّقون الخُطَب،
بالمُعجمة، صحَّفهُ وكيع بفتح المُهملة، وكذا صحَّفه ابن شاهين أيضًا، فقال بعض
المَلاَّحين: فكيف يا قَوْم والحاجة ماسَّة.
ويَكُون تَصْحيف سَمْعٍ، كحديث عن عَاصم الأحْوَل رواهُ بعضهُم فقال: واصلٌ
الأحْدَب.
ويَكُونُ في المَعْنَى، كقول مُحمَّد بن المُثَنى: نحنُ قومٌ لنَا شَرفٌ، نحنُ من
عَنزةَ، صَلَّى إلينَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعجب من ذلك ما ذكرهُ الحاكم عن أعْرَابي، أنَّه زعم أنَّ النبي صلى الله عليه
وسلم صلَّى إلى شاة، صحَّفها عَنْزة، بسكون النُّون، ثمَّ رواه بالمعنى على وهمه،
فأخطأ من وجهين.
ومن ذلك أنَّ بعضهم سمع حديث النَّهي عن التَّحليق يوم الجُمعة قبل الصَّلاة، قال:
ما حلقتُ رَأْسي قبل الصَّلاة منذ أربعين سَنَة. فهمَ منه تحليق النَّاس حَلْقًا.
قسم شيخ الإسلام هذا النَّوع إلى قسمين:
أحدهما: ما غُيِّر فيه النَّقط، فهو المُصحَّف.
والآخر: ما غُيِّر فيه الشكل، مع بقاء الحُروف، فهو الْمُحَرّف.
النَّوع السَّادس والثَّلاثون: مَعْرفةُ مُخْتَلِف الحَديثِ وحُكْمهُ
هذا فنٌّ من أهمِّ الأنْوَاعِ، ويُضطرُّ إلى مَعْرفتهِ جميعُ العُلَماء من
الطَّوائف، وهو أن يأتي حَدِيثَان مُتَضَادَّان في المَعْنى ظاهرًا، فيُوفِّق
بينهمَا، أو يُرَجِّح أحدهمَا، وإنَّمَا يكمُلُ لهُ الأئمةُ الجَامعُونَ بينَ
الحَديثِ والفقه، والأصُوليون الغَوَّاصُونَ على المَعَاني، وصنَّفَ فيه الإمامُ
الشَّافعيُّ ولم يَقْصد رحمهُ الله اسْتيفَاءه، بل ذَكرَ جُمْلةً يُنَبِّهُ بها على
طريقه، ثمَّ صنَّف فيهِ ابن قُتَيبة، فأتَى بأشياء حَسَنة، وأشْيَاء غير حَسَنة،
لِكَون غيرهَا أقْوَى وأوْلَى، وتركَ مُعْظَم المُختَلف.
ثمَّ صنَّف في ذلك ابن جرير، والطَّحَاوي كتابه «مُشْكل الآثار».
وكان ابن خُزَيمة من أحْسَن النَّاس كلامًا فيه، حتَّى قال: لا أعرفُ حديثين
مُتضادين، فمَنْ كان عندهُ فليَأتني به لأؤلف بينهما.
ومَنْ جمعَ مَا ذكَرْنا لا يُشْكل عليه إلاَّ النَّادرُ في الأحيان.
والمُختَلف قِسْمَان:
أحدهما يُمكنُ الجَمْعُ بينهمَا، فيَتعيَّن ويجب العملُ بهمَا.
والثَّاني: لا يُمكن بوجْهٍ، فإنْ عَلمنَا أحدهُمَا ناسخًا قدَّمناهُ، وإلاَّ عملنا
بالرَّاجح، كالتَّرْجيح بصفَاتِ الرُّواة وكَثْرتهم في خمسين وجهاً.