صفحة جديدة 1
القِسْم الثَّالث: الإجَازة، وهي أضْرُبٌ:
الأوَّل: أن يُجيز مُعَينًا لمُعَيَّن، كأجزتُكَ البُخَاريَّ، أو ما اشْتَملت عليه
فهرستي، وهذا أعْلَى أضْرُبها المُجَردة عن المُنَاولة..
والصَّحيح الَّذي قالهُ الجمهُور من الطَّوائف واستقرَّ عليه العملُ: جَوَازُ
الرِّواية والعمل بهَا.
وأبْطَلَها جماعاتٌ من الطَّوائف، وهو إحْدَى الرِّوايتين عن الشَّافعيِّ.
وقال بعضُ الظَّاهرية ومُتَابعيهم: لا يُعملُ بهَا كالمُرْسل، وهَذَا باطلٌ.
الضَّربُ الثَّاني: يُجيزُ مُعيَّنًا غيرهُ، كأجزتُكَ مَسْموعَاتي، فالخِلافُ فيه
أقْوَى وأكْثرُ، والجُمهور من الطَّوائف جَوَّزوا الرِّواية وأوجَبُوا العملَ بهَا.
الثَّالث: يُجيزُ غيرَ مُعيَّن بوَصْفِ العُمُوم، كأجزتُ المُسْلمين، أو كلَّ أحد،
أو أهلَ زَمَاني، وفيه خِلافٌ للمتأخِّرين، فإن قَيَّدها بوصف حَاصرٍ فأقربُ إلى
الجَوَاز.
ومن المُجَوِّزين: القاضي أبو الطَّيب، والخطيب، وأبو عبد الله بن مَنْده، وابن
عتَّاب، والحافظُ أبو العلاء، وآخرون.
قال الشَّيخ: ولم يُسمَع عن أحَدٍ يُقْتدَى به الرِّواية بهذه.
قلتُ: الظَّاهر من كلام مُصحِّحها جَوَاز الرِّواية بهَا، وهذا يقتضي (مُقتضى)
صِحَّتها، وأيُّ فائدةٍ لهَا غيرُ الرِّواية بِهَا.
[قال الشَّيخ] ابن الصَّلاح(834) ميلاً إلى المَنْع: [ولم نَسْمع عن أحد يُقتدى به
الرِّواية بهذه] قال: والإجَازة في أصلها ضعيفة، وتَزْداد بهذا التَّوسع
والاسْترسَال ضعفًا كثيرًا.
الرَّابع: إجَازةٌ بمجهُولٍ، أو له، كأجزتُكَ كتاب السُّنن، وهو يَرْوي كُتبًا في
السُّنن، أو أجزتُ لمحمَّد بن خالد الدِّمشقي، وهناك جَمَاعة مُشْتركُون في هذا
الاسم، فهي باطلةٌ، فإن أجَازَ لجماعة مُسَمين في الإجَازة أو غيرها، ولم يعرفهم
بأعْيَانهم، ولا أنْسَابهم، ولا عَدَدهم، ولا تصفحهم، صَحَّت الإجَازة، كسماعهم
منهُ في مَجْلسهِ في هذا الحَال، وأمَّا (أجزتُ لِمَنْ يَشَاء فُلان)، أو نحو
هَذَا، ففيهِ جَهَالة وتعليق، فالأظْهر بُطْلانه، وبِهِ قَطَع القَاضي أبو الطَّيب
الشَّافعي وصحَّحه ابن الفَرَّاء الحَنْبلي وابن عمْرُوس المالكي.
ولو قال: أجَزتُ لِمَنْ يَشَاء الإجَازة، فهو كأجَزتُ لِمَنْ يَشَاء فُلانٌ، وأكثر
جَهَالة.
ولو قال: أجَزتُ لِمَنْ يَشَاء الرِّواية عنِّي، فأوْلَى بالجَوَاز، لأنَّه تصريحٌ
بمُقْتضَى الحَالِ.
ولو قال: أجَزتُ لفلان كذا إنْ شَاء روايتهُ عنِّي، أو لكَ إنْ شئتَ أو أحْبَبتَ،
أو أردتَ؛ فالأظْهر جَوَازه.
الخامس: الإجَازةُ للمعدُوم، كأجزتُ لِمَنْ يُولد لفُلان، واختلفَ المُتأخِّرون في
صحَّتها، فإن عَطَفه على موجُود، كأجزتُ لفُلان، ومَنْ يُولد له، أو لكَ ولعَقِبكَ
ما تَنَاسلُوا، فأوْلَى بالجَوَاز..
وفَعَل الثَّاني من المٌحَدِّثين أبو بكر بن أبي داود.
[وفعل الثَّاني من المُحدِّثين] الإمام [أبو بكر] عبد الله [بن أبي داود]
السِّجستاني، فقال وقد سُئل الإجَازة: قد أجزت لكَ، ولأولادك، ولحبل الحبلة. يعني
الَّذين لم يُولدوا بعد.
وأجَازَ الخَطيب الأوَّل، وحكاهُ عن ابن الفَرَّاء وابن عمرُوس.
وأبْطَلهَا القَاضي أبو الطَّيب وابن الصبَّاغ الشَّافعيان؛ وهو الصَّحيح الَّذي لا
ينبغي غيره.
وأمَّا الإجَازة للطِّفل الَّذي لا يُمَيِّز فَصحيحةٌ على الصَّحيح، الَّذي قطعَ به
القَاضي أبو الطَّيب والخَطِيب خِلافًا لبعضهم.
السَّادس: إجَازةُ ما لم يتحمَّلهُ المُجيز بوجهٍ، ليرويهُ المُجَاز إذَا تحمَّلهُ
المُجيز، قال القَاضي عياض: لَمْ أرَ مَنْ تكلَّم فيهِ، ورأيتُ بعضَ المُتأخِّرين
يَصْنعونهُ، ثمَّ حَكَى عن قَاضي قُرْطُبة أبي الوَليدِ مَنْع ذلك، قال عياض: وهو
الصَّحيح، وهذا هو الصَّوابُ.
فَعَلَى هذا يَتعيَّنُ على مَنْ أرادَ أنْ يروي عن شيخٍ أجَاز له جميع مَسْمُوعاته
أن يبحثَ حتَّى يعلم أنَّ هَذَا مِمَّا تحمَّلهُ شيخهُ قبل الإجَازة، وأمَّا
قولُهُ: أجزتُ لكَ ما صحَّ، أو يصح عندكَ من مَسْمُوعَاتي، فصحيحٌ تَجُوزُ
الرِّواية به لِمَا صحَّ عندهُ سماعُهُ له قبل الإجَازة، وفَعَلهُ الدَّارقُطني
وغيرهُ.
السَّابع: إجَازةُ المُجَاز، كأجزتُكَ مُجَازاتي، فَمَنَعهُ بعضُ مَنْ لا يُعتدُّ
بهِ.
[السَّابع: إجَازة المُجَاز، كأجزتك مُجَازاتي] أو جميع ما أجيز روايته [فمنعهُ بعض
من لا يعتد به] وهو الحافظ أبو البركات عبد الوهَّاب بن المُبَارك الأنْمَاطي شيخ
ابن الجَوْزي، وصنَّف في ذلك جُزءًا، لأنَّ الإجَازة ضعيفة فيقوَّى الضعف باجتماع
إجَازتين.
والصَّحيح الَّذي عليهِ العمل جَوَازُه، وبه قَطَعَ الحُفَّاظ الدَّارقُطْني، وابن
عُقْدة، وأبو نُعيم، وأبو الفَتْح نَصْر المَقْدسي، وكان أبو الفَتْح يروي
بالإجَازة عن الإجَازة، وربَّما والَى بين ثلاثٍ، وينبغي للرَّاوي بها تأمُّلهَا،
لئلاَّ يروي ما لم يدخُل تحتَهَا، فإن كَانت إجَازةُ شَيخِ شَيْخهِ: أجزتُ له ما
صحَّ عندهُ من سَمَاعي، فرأى سَمَاعَ شيخِ شَيْخهِ، فليسَ لهُ روايتهُ عن شيخهِ
عنهُ، حتَّى يَعرفَ أنَّه صحَّ عندَ شيخهِ كونهُ من مَسْموعات شَيْخهِ.
فَرْعٌ: قال أبو الحُسين بن فَارس: الإجَازةُ مَأخُوذةٌ من جَوَاز المَاء الَّذي
تُسْقاهُ المَاشيةُ والحَرْثُ، يُقَال: اسْتجزتهُ فأجَازَني، إذَا أسْقَاكَ ماء
لماشيتكَ وأرضكَ، كذا طالبُ العلم يَسْتجيزُ العَالمَ عِلْمهُ فيُجيزهُ، فعلى هذا
يَجُوز أن يُقَال: أجزتُ فُلانًا مَسْمُوعَاتي، ومَنْ جَعَلَ الإجَازةَ إذْنًا وهو
المعروف يقول: أجَزتُ لهُ رِوَاية مَسْمُوعاتي.
ومَتَى قال: أجَزتُ له مَسْمُوعَاتي، فعلى الحذف كَمَا في نَظَائره.
قالوا: إنَّما تُستحسن الإجَازة إذَا عَلِمَ المُجيز ما يُجيز، وكان المُجَاز من
أهل العِلْم واشْتَرطهُ بعضهُم، وحُكيَ عن مالك، وقال ابنُ عبد البرِّ: الصَّحيح
أنَّها لا تَجُوز إلاَّ لماهرٍ بالصِّنَاعة، وفي مُعيَّن لا يُشْكل إسْنَادهُ،
وينبغي للمُجِيز كِتَابةً أن يتلفَّظ بها، فإن اقْتُصرَ على الكِتَابة معَ قَصْد
الإجَازةِ صَحَّت.
القسم الرَّابع: المُنَاولة:
وهي ضَرْبان: مَقْرُونة بالإجَازة، ومُجَرَّدةٌ.
فالمقرُونة أعْلَى أنواع الإجَازة مُطْلقًا، ومن صُوَرها أن يَدْفع الشَّيخ إلى
الطَّالب أصْلَ سَمَاعهِ، أو مُقَابَلاً به، ويَقُول: هذا سَمَاعي، أو راويتي عن
فُلانٍ فَارْوهِ، أو أجَزتُ لكَ روايتهُ عنِّي، ثمَّ يُبْقيهِ معهُ تمليكًا، أو
لينسخهُ، أو نحوهُ.
ومنها: أن يَدْفع إليه الطَّالبُ سَمَاعه، فيتأمَّله الشَّيخ وهو عارفٌ مُتيقِّظٌ،
ثمَّ يُعيدُه إليه ويقول: هو حَدَيثي، أو رِوَايتي، فاروهِ عَنِّي، أو أجَزتُ لك
روايتهُ، وهذا سَمَّاه غيرُ واحدٍ من أئمة الحديث عَرْضًا، وقد سَبَقَ أنَّ
القِرَاءة عليه تُسمَّى عَرْضًا، فليُسم هذا عَرْض المُنَاولة، وذاكَ عرض
القِرَاءة، وهذه المُنَاولة كالسَّماع في القُوَّة عند الزُّهْري، ورَبِيعة، ويحيى
بن سعيد الأنصاريِّ، ومُجَاهد، والشَّعبي، وعَلْقمة، وإبراهيم، وأبي العَالية، وأبي
الزُّبير، وأبي المُتوكِّل، ومالك، وابن وهب، وابن القَاسم، وجَمَاعات آخرين.
والصَّحيح أنَّها مُنْحطَّةٌ عن السَّماع والقِرَاءة، وهوَ قولُ الثَّوري،
والأوْزَاعي، وابن المُبَارك، وأبي حنيفة، والشَّافعي، والبُوَيطي، والمُزَني
وأحمد، وإسْحَاق، ويحيى بن يحيى.
قال الحاكمُ: وعليه عهدنا أئمتنا، وإليه نَذْهبُ.
ومن صُورها: أن يُنَاول الشَّيخ الطَّالب سماعهُ، ويُجيزهُ لهُ، ثمَّ يُمْسِكهُ
الشَّيخُ، وهذا دُونَ ما سبقَ..
[ومن صُورها: أن يُناول الشَّيخ الطَّالب سماعه، ويجيزه له، ثم يُمسكه الشَّيخ]
عنده ولا يُبقيه عند الطَّالب [وهذا دُون ما سبق] لعدم احتواء الطَّالب على ما
يحمله وغيبته عنه
وتَجُوزُ روايتهُ إذَا وجدَ الكِتَاب، أو مُقَابَلاً به، موثُوقًا بموافقته ما
تَنَاولتهُ الإجَازة، كَمَا يُعتبر في الإجَازة المُجرَّدة، ولا يَظْهر في هذه
المُنَاولة كبير مزية على الإجَازة المُجرَّدة في مُعيَّن.
وقال جَماعةٌ من أصْحَابِ الفِقْهِ والأصُول: لا فَائدةَ فيها..
[و] قد [قال جماعة من أصحاب الفقه والأصُول: لا فائدة فيها]
وعِبَارة القاضي عياض منهم: وعلى التَّحقيق فليسَ لها شيء زائد على الإجَازة
للشَّيء المُعيَّن من التَّصانيف، ولا فَرْق بين إجَازته إيَّاه أن يُحدّث عنه
بكتاب «الموطأ» وهو غائب أو حاضر، إذ المقصود تعيين ما أجَازهُ.
وشُيوخُ الحديث قديمًا وحديثًا يرونَ لها مزيةً مُعتبرةً.
ومنها: أن يأتيهُ الطَّالب بكتابٍ ويَقُول: هذا روايتكَ فَنَاولنيهِ وأجِزْ لي
روايتهُ، فيُجيبهُ إليه من غير نَظَرٍ فيهِ وتَحقُّق لروايتهِ، فهذا بَاطلٌ، فإن
وَثِقَ بخبرِ الطَّالب ومعرفتهِ اعتمدهُ وصحَّت الإجَازة، كما يَعْتمدُه في
القِرَاءة، فلو قال: حَدِّث عنِّي بما فيه إن كَانَ من حَديثي، مع بَرَاءتي من
الغَلَطِ كان جَائزًا حَسَنًا.
الضَّرب الثَّاني: المُجَرَّدة، بأن يُنَاوله مُقتصِرًا على: هذا سَمَاعي، فلا
تَجُوز الرِّواية بهَا على الصَّحيح، الَّذي قَالهُ الفُقَهاء وأصْحَاب الأصُول،
وعَابُوا المُحدِّثين المُجَوِّزين.
فَرْعٌ: جوَّزَ الزُّهْريُّ، ومالك، وغيرهما، إطْلاق: (حدَّثنا وأخبرنا) في
الرِّواية بالمُنَاولة، وهو مُقتضَى قول مَنْ جعلها سَماعًا، وحُكيَ عن أبي نُعيم
الأصْبَهاني وغيرهُ جَوَازهُ في الإجَازة المُجَرَّدة.
والصَّحيح الَّذي عليه الجمهُور وأهلُ التَّحري المَنْعُ، وتخصيصُهَا بعبَارةٍ
مُشْعرةٍ بها: كحدَّثنا وأخبرنا إجَازةً، أو مُنَاولةً وإجَازةً، أو إذنًا، أو في
إذْنهِ، أو فيما أَذِنَ لي فيه، أو فيما أطْلَقَ لي رِوَايته، أو أجَازني، أو لي،
أو نَاولني، أو شبهُ ذلكَ..
وعن الأوزاعي تخصيصُهَا بـ (خَبَّرنَا)
[وعن الأوزاعي تخصيصُهَا] أي الإجَازة [بخبَّرنا] بالتشديد
والقِرَاءة بأخْبَرنَا
[و] تخصيص [القراءة بأخبرنا] بالهَمْزة
واصْطَلح قومٌ من المُتأخِّرين على إطْلاق (أنْبَأنا) في الإجَازة، واختارهُ صاحب
كِتَاب «الوجَازة».
وكان البَيْهقي يقول: أنْبَأني إجَازةً.
وقال الحَاكم: الَّذي أختارهُ، وعَهدتُ عليهِ أكثر مَشَايخي، وأئمةُ عَصْري أن
يَقُول فيما عَرضَ على المُحدِّث فأجَازهُ شِفَاهًا: أنْبَأني، وفيما كَتبَ إليه:
كَتبَ إليَّ.
وقَدْ قال أبو جَعْفر بن حمدان: كُل قول البُخَاري: قال لي فلان (عَرْضٌ
ومُنَاولة)، وعَبَّر قومٌ عن الإجَازة بأخْبَرنا فُلان، أنَّ فُلانًا حدَّثهُ، أو
أخبرهُ، واخْتَارهُ الخَطَّابي، وحَكَاهُ، وهو ضعيفٌ.
[واخْتَارهُ الخَطَّابي، أو حكاهُ، وهو ضعيفٌ] بعيدٌ عن الإشْعَار بالإجَازة.
واسْتعملَ المُتأخِّرون في الإجَازة الوَاقعة في رِوَاية مَنْ فوق الشَّيخ حرف:
عَنْ، فيقُولُ مَنْ سمعَ شيخًا بإجَازتهِ عن شَيْخٍ: قرأتُ على فُلان، عن فُلانٍ.
ثمَّ إنَّ المَنْعَ من إطْلاق: حدَّثنا وأخبرنا، لا يَزُول بإبَاحةِ المُجيز ذلكَ.
[ثمَّ إنَّ المَنْع من إطْلاق: حدَّثنا وأخبرنا] في الإجَازة والمُنَاولة [لا يزول
بإباحة المُجيز ذلك] كما اعتاده قومٌ من المشايخ في إجَازاتهم لمن يُجيزون، إن شاء
قال: حدَّثنا، وإن شاء قال: أخبرنا، لأنَّ إبَاحة الشَّيخ لا يغير بها الممنُوع في
المُصْطلح.