صفحة جديدة 3
وَمَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ إِثْبَاتُهُ لَفْظاً، وَتَرْكُ
اَلتَّعَرُّضِ لِمَعْنَاهُ، وَنَرُدُّ عِلْمَهُ إِلَى قَائِلِهِ، وَنَجْعَلُ
عُهْدَتَهُ عَلَى نَاقِلِهِ، اِتِّبَاعاً لِطَرِيقِ اَلرَّاسِخِينَ فِي اَلْعِلْمِ،
اَلَّذِينَ أَثْنَى اَللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ اَلْمُبِينِ بِقَوْلِهِ
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-
﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنَا﴾[آل عمران:7]
وَقَالَ فِي ذَمِّ مُبْتَغِي اَلتَّأْوِيلِ لِمُتَشَابِه تَنْزِيلِهِ:
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
إِلَّا اللَّهُ﴾[آل عمران:7]
فَجَعَلَ اِبْتِغَاءَ اَلتَّأْوِيلِ عَلَامَةً عَلَى اَلزَّيْغِ،
وَقَرَنَهُ بِابْتِغَاءِ اَلْفِتْنَةِ
في الذم، ثم حجبهم عمّا أمّلوه وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه:
﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾[آل عمران:7]
قَالَ اَلْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ
حَنْبَلٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ اَللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ اَلدُّنْيَا» أو
«إِنَّ اَللَّهَ يُرَى فِي
اَلْقِيَامَةِ» وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ
اَلْأَحَادِيثِ نُؤْمِنُ بِهَا، وَنُصَدِّقُ بِهَا، لَا كَيْفَ، وَلَا مَعْنَى،
وَلَا نَرُدُّ شَيْئاً مِنْهَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ اَلرَّسُولُ
حَقٌّ، وَلَا نَرُدُّ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَلَا نَصِفُ اَللَّهَ بِأَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، بِلَا
حَدٍّ وَلَا غَايَةٍ
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]،
وَنَقُولُ كَمَا قَالَ، وَنَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، لَا نَتَعَدَّى
ذَلِكَ، وَلَا يَبْلُغُهُ وَصْفُ اَلْوَاصِفِينَ، نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ كُلِّهُ
مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَلَا نُزِيلُ عَنْهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ
لِشَنَاعَةٍ شُنِّعَتْ، وَلَا نَتَعَدَّى اَلْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ، وَلَا نَعْلَمُ
كَيْفَ كُنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَصْدِيقِ اَلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم
وَتَثْبِيتِ اَلْقُرْآنِ.
قَالَ اَلْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ
اَلشَّافِعِيُّ رضي الله عنه آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ اَللَّهِ عَلَى
مُرَادِ اَللَّهُ، وَآمَنْتُ بِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِمَا جَاءَ
عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اَللَّهِ.
وَعَلَى هَذَا دَرَجَ اَلسَّلَفُ، وَأَئِمَّةُ اَلْخَلَفِ -رَضِيَ
اَللَّهُ عَنْهُمْ- كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اَلْإِقْرَارِ، وَالْإِمْرَارِ،
وَالْإِثْبَاتِ لِمَا وَرَدَ مِنْ اَلصِّفَاتِ فِي كِتَابِ اَللَّهِ، وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَأْوِيلِهِ.
وَقَدْ أُمِرْنَا بِالِاقْتِفَاءِ لِآثَارِهِمْ، وَالِاهْتِدَاءِ
بِمَنَارِهِمْ.
وَحُذِّرْنَا اَلْمُحْدَثَاتِ، وَأُخْبِرْنَا أَنَّهَا مِنْ
اَلضَّلَالَاتِ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ اَلْخُلَفَاءِ اَلرَّاشِدِينَ
اَلْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ
وَمُحْدَثَاتِ اَلْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ».
وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: اتَّبِعُوا وَلَا
تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ
.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَلَاماً
مَعْنَاهُ: قِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ، فَإِنَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ وَقَفُوا،
وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ كَفُّوا، وَلَهُمْ عَلَى كَشْفِهَا كَانُوا أَقْوَى،
وَبِالْفَضْلِ لَوْ كَانَ فِيهَا أَحْرَى، فَلَئِنْ قُلْتُمْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ،
فَمَا أَحْدَثَهُ إِلَّا مَنْ خَالَفَ هَدْيَهُمْ، وَرَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِمْ،
وَلَقَدْ وَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، وَتَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يَكْفِي، فَمَا
فَوْقَهُمْ مُحَسِّرٌ، وَمَا دُونَهُمْ مُقَصِّرٌ، لَقَدْ قَصَّرَ عَنْهُمْ قَوْمٌ
فَجَفَوْا، وَتَجَاوَزَهُمْ آخَرُونَ فَغَلَوْا، وَإِنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ
لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ.