صفحة جديدة 1
وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشَّبَه المطرد-
عند مَنْ يقول به - فلا بد من السَّبْر، فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن
يقول: عُلِّق الحُكم بهذا دون هذا.
ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، والنبي صلى
الله عليه وسلم قد نهى المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائماً، وقياسهم
على الاستنشاق أقوى حُججهم كما تقدم، وهو قياس ضعيف، وذلك لأن مَنْ نَشَق الماء
بمنخريه ينزل الماء إلى حَلْقه وإلى جوفه، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه،
ويُغَذّي بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش، ويُطْبَخ الطعام في معدته، كما يحصل
بشُرب الماء، فلو لم يَرِد النَّص بذلك لعُلِم بالعقل أن هذا من جنس الشرب، فإنهما
لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم، وذلك غير مُعْتَبر، بل دخول الماء إلى الفم
وحده لا يُفَطّر، فليس هو مُفطراً ولا جزءاً من المفطر؛ لعدم تأثيره، بل هو طريق
إلى الفطر.
وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة؛ فإن الكحل لا يُغَذّي البتة،
ولا يُدْخِل أحد كحلاً إلى جوفه، لا من أنفه ولا فمه، وكذلك الحقنة لا تُغَذّي بوجه
من الوجوه، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شَمّ شيئاً من الْمُسَهّلات، أو فَزِعَ
فَزَعاً أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تَصِل إلى المعدة، والدواء الذي يَصِلُ إلى
المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يُشْبِه ما يَصِل إليها من غذائه.
والله سبحانه قال:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ﴾[البقرة:183]،
وقال صلى الله عليه وسلم: «الصوم جُنة»، وقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم»، فالصائم نُهِي عن الأكل والشرب لأن ذلك سبب
التَّقَوِّي، فَتَرْك الأكل والشرب الذي يُوَلِّد الدم الكثير الذي يجري فيه
الشيطان، والدم الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء، لا عن حُقنة، ولا
كُحل، ولا ما يُقَطَّر في الذَّكَر، ولا ما يُدَاوَى به المأمومة والجائفة، وهو
مُتولد عما استنشق من الماء.
لأن الماء مما يتولد منه الدم، فكان المنع منه من تمام الصوم، فإذا كانت هذه
المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنَّص والإجماع فدعواهم أن الشارع عَلّق
الحكم بما ذكروه من الأوصاف مُعَارَض بهذه الأوصاف.
والمعارضة في الأصل تُبْطِل كل نوع من أنواع الأقيسة إن لم يتبين أن الوصف الذي
ادعوه هو العلة دون هذا.
الوجه الخامس: أن نقول: بل الشارع إنما عَلّق الحكم بأوصاف منتفية في محل النزاع،
فيدل ذلك على انتفاء عِلة الحكم في محل النزاع، وهذا مستقل عن انتفاء الحكم في محل
النزاع وفساد القياس، فإن الوصف الذي قصده الشارع في الأصل إذا كان منتفياً في
الفرع عُلِم أن الشارع لم يثبت الحكم في الفرع، وانتفاء الحكم لانتفاء علته، وهذا
قياس العكس والفرق وهو أحد نوعي القياس، وما تقدم إفسادٌ لقياس الطرد الذي استدلوا
به، وهذا إثبات لقياس العكس الدال على انتفاء الحُكم في الفرع، فذاك معارضة في
الدليل، وهذا دليل مستقل، وهو يصح أن يكون معارضة في الحكم لو أقاموا عليه دليلاً،
معلوم أنه ثبت بالنص والإجماع مَنْع الصائم من الأكل والشرب والجماع، وقد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»، ولا
ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشيطان؛ ولهذا
قال: «فضيقوا مجاريه بالجوع»، وبعضهم يذكر هذا اللفظ مرفوعاً.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فُتِّحَت أبواب الجنة،
وغُلِّقَت أبواب النار، وصُفِّدَت الشياطين».
فإن مجاري الشياطين- الذي هو الدم- ضاقت، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فِعْل
الخيرات التي بها تُفْتَح أبواب الجنة، وإلى تَرْك المنكرات التي بها تُفْتَح أبواب
النار، وصُفِّدَت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في
شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره، ولم يَقُل: إنهم قُتِلوا، ولا ماتوا بل قال:
«صُفِّدَت»، والْمُصَفّد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير
رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونَقْصه، فمضنْ كان صومه كاملاً دَفَع الشيطان دَفْعاً
لا يدفعه الصوم الناقص.
فهذه المناسبة ظاهرة في مَنْع الصائم من الأكل والشرب، والحُكم ثابت على وَفْقه،
وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره، وهذا المَنْع مُنتفٍ في الحقنة
والكحل وغير ذلك.
قيل: هذا كما قد يُقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ فيستحيل دماً،
وكالدهن الذي يشربه الجسم، والممنوع منه إنما هو ما يَصِل إلى المعدة كالغذاء
فيستحيل دماً ويتوزع على البدن..
ونجعل هذا وجهاً سادساً: فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك؛
لجامع ما يشتركان فيه من أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن، ويستحيل في المعدة دماً،
وهذا الوصف هو الذي أوجب أن لا تكون هذه الأمور مُفَطّرة، وهذا موجود في محل
النزاع، والفرع قد يتجاذبه أصلان، فيلحق كلاً منهما بما يُشْبهه من الصفات المعتبرة
في الشرع، وقد ذكرنا الصفة المعتبرة في الشرع.
فإن قيل: فلو أكل تراباً أو حصى أو غير ذلك مما لا يُغَذّي غذاءً نافعاً قيل: هذا
تطبخه المعدة ويستحيل دماً يُنْمِي عنه البدن، لكنه غذاء ناقص، فهو كما لو أكل
سُمّاً أو نحوه مما يضره، وهو بمنزلة مَنْ أَكَلَ أكلاً كثيراً أورثه تُخمة ومرضاً،
فكان مَنْعُه في الصوم عن هذا أوكد؛ لأنه ممنوع عنه في الإفطار، ففي الصوم أوكد،
وهذا كَمَنْعه من الزنا، فإنه إذا مُنِعَ من الوطء المباح فالمحظور أَوْلَى.
إن قيل: فالجماع مفطر، ودم الحيض مفطر، وهذه العلة منتفية فيهما؟
قيل: تلك أحكام ثابتة بالنَّص والإجماع، فلا يحتاج إثباتها إلى القياس..
بل يجوز أن تكون العِلل مختلفة فيكون تحريم الطعام والشراب والفِطْر بذلك لحكمة،
وتحريم الجماع والفطر به لحكمة، والفطر بالحيض لحِكمة.
فإن الحيض لا يُقال فيه: إنه يحرم، وهذا لأن المفطرات بالنَّص والإجماع لَمّا
انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع، وإلى أمور لا اختيار له
فيها كدم الحيض، كذلك تنقسم عِلَلُها.
فنقول: أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض
والاحتجام، كما سنبينه إن شاء الله تعالى، فإنه من نوع الاستفراغ، لا الامتلاء
كالأكل والشرب.
ومن جهة أنه إحدى الشهوتين فجرى مجرى الأكل والشرب، وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم في الحديث الصحيح عن الله تعالى: «قال: الصوم لي وأنا أجزي به، يَدَعُ شهوته
وطعامه من أجلي»..
فَتَرْكُ الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يُثاب عليها كما يثاب المحرِم على
تَرْك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نَعِيم البدن.
والجماع من أعظم نعيم البدن وسرور النَّفْس وانبساطها، وهو يُحَرّك الشهوة والدم
والبدن أكثر من الأكل، فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والغذاء يبسط
الدم الذي هو مجاريه، فإذا أَكَل أو شَرِب انبسطت نفسه إلى الشهوات وضعفت إرادتها
ومحبتها للعبادات، فهذا المعنى في الجماع أبلغ؛ فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات،
ويُضْعف إرادتها عن العبادات أعظم؛ بل الجماع هو غاية الشهوات، وشهوته أعظم من شهوة
الطعام والشراب، ولهذا أوجب على الْمُجامع كفارة الظهار، فوجب عليه العتق أو ما
يقوم مقامه بالسُّنة والإجماع؛ لأن هذا أغلظ، وداعيه أقوى، والمفسدة به أشد، فهذا
أعظم الحِكمتين في تحريم الجماع .
وأما كونه يُضْعف البدن كالاستفراغ فذاك حكمة أخرى، فصار فيهما كالأكل والحيض، وهو
في ذلك أبلغ منهما، فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض.
فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وَفْق القياس، فنقول: إن الشرع جاء بالعدل في كل
شيء، والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع، وأَمَر بالاقتصاد في
العبادات، ولهذا أَمَرَ بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ونَهى عن الوصال، وقال: «أفضل
الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا
يَفِرّ إذا لاقى»..
فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع؛ ولهذا قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾[المائدة:87]
الآية، فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل، وقال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾[النساء:160]
﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾[النساء:161]،
فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حُرِّمَت عليهم الطيبات بخلاف الأمة الوسط العدل فإنه
أحل لهم الطيبات وحَرّم عليهم الخبائث،
وإذا كان كذلك
فالصائم قد نُهِي عن أَخْذ ما يُقَوّيه ويُغَذّيه من الطعام والشراب، فنُهِي عن
إخراج ما يضعفه ويُخْرِج مادته التي بها يتغذى، وإلا فإذا مُكِّنَ من هذا ضَرّه
ذلك، وكان متعدياً في عبادته لا عادلاً..
والخارجات نوعان: نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه، أو على وجه لا يضره؛ فهذا لا
يُمْنَع منه كالأخبثين فإن خروجهما لا يضره ولا يُمكنه الاحتراز منه أيضاً، ولو
استدعى خروجهما فإن خروجهما لا يضره، بل ينفعه، وكذلك إذا ذرعه القيء لا يمكنه
الاحتراز منه وكذلك الاحتلام في المنام لا يمكنه الاحتراز منه.
وأما إذا استقاء فالقيء يُخرج ما يتغذى به من الطعام والشراب المستحيل في المعدة.
وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة فهو يُخْرِج المني الذي هو مستحيل في المعدة
عن الدم، فهو يُخْرِج الدم الذي يتغذى به، ولهذا كان خروج المني إذا أفرط فيه يضر
الإنسان ويخرج أحمر.
والدم الذي يخرج زمن الحيض فيه خروج الدم، والحائض يمكنها أن تصوم في غير أوقات
الدم في حال لا يخرج فيها دمها، فكان صومها في تلك الحال صوماً معتدلاً لا يخرج فيه
الدم الذي يُقَوّي البدن الذي هو مادته، وصومها في الحيض يوجب أن يخرج فيه دمها
الذي هو مادتها، ويوجب نقصان بدنها وضعفها، وخروج صومها عن الاعتدال، فأُمِرَت أن
تصوم في غير أوقات الحيض، بخلاف المستحاضة؛ فإن الاستحاضة تعم أوقات الزمان، وليس
لها وقت تؤمر فيه بالصوم.
وَطَرْدُ هذا إخراج الدم بالحِجامة والفِصَاد ونحو ذلك، فإن العلماء متنازعون في
الحجامة هل تُفَطّر الصائم أم لا؟ والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» كثيرة قد بَيّنها الأئمة الحُفّاظ.
والقول بأن الحجامة تُفَطِّر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن
راهويه وابن خُزيمة وابن المنذر وغيرهم رحمهم الله تعالى.
وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في «الصحيح»: أن النبي صلى الله عليه
وسلم احتجم وهو صائم مُحْرِم وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة وهي قوله: (وهو
صائم).
وقالوا: الثابت أنه احتجم وهو محرم.
قال أحمد: قال يحيى بن سعيد: قال شعبة: لم يسمع الحكم حديث مقْسم في الحجامة
للصائم. يعني: حديث شُعبة عن الحَكَم عن مقْسم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن
النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم مُحْرِم.
قال مُهنا (رحمه الله): سألتُ أحمدَ عن حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن
ابن عباس (رضي الله عنهما): أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم مُحْرِم،
فقال: ليس بصحيح، وقد أَنْكَرَه يحيى بن سعيد الأنصاري.
قال الأثرم: سمعتُ أبا عبد الله رَدَّ هذا الحديث فَضَعّفَه، وقال: كانت كُتُب
الأنصاري ذهبت في أيام المنتصر، فكان بعدُ يُحَدِّث من كُتُب غلامه، وكان هذا من
تلك.
وقال مهنا (رحمه الله): سألتُ أحمد عن حديث قبيصة عن سفيان عن حَمّاد عن سعيد بن
جُبير عن ابن عباس رضي الله عنه احتجم النبي صلى الله عليه وسلم صائماً مُحْرِماً
فقال: هو خطأ من قبيل قبيصة.
وسألتُ يحيى عن قبيصة، فقال: رجل صِدْق، والحديث الذي يحدث به عن سفيان عن سعيد خطأ
من قِبَله.
قال مهنا: وسألتُ أحمد عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه
وسلم احتجم وهو مُحْرِمٌ صائم، فقال: ليس فيه «صائم» إنما هو مُحْرِم ذَكَرَه سفيان
عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما: احتجم النبي صلى الله عليه
وسلم على رأسه وهو مُحْرِم، وعن طاوس وعطاء مثله عن ابن عباس، وعن عبد الرزاق عن
مَعْمَر عن ابن خُثَيْم عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس مثله، وهؤلاء أصحاب ابن عباس
رضي الله عنهما لا يذكرون صائماً.
قلتُ: وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم.
وأجود ما قيل ما ذكره الشافعي وغيره: من أن هذا منسوخ.