صفحة جديدة 1
الخرور إلى السجود على اليدين
وكان صلى الله عليه وسلم «يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه».
وكان يأمر بذلك؛ فيقول: «إذا سجد أحدكم فلا يَبْرُكْ كما يَبْرُكُ البعيرُ،
ولْيضَعْ يديه قبل ركبتيه».
صفة السجود
وكان يقول: «إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه،
وإذا رفع فليرفعهما».
وكان يعتمد على كفيه ويبسطهما، ويضم أصابعهما، ويوجهها قِبَل القِبْلة.
وكان يجعلهما حذو منكبيه، وأحياناً حذو أذنيه.
وكان يُمَكِّن أنفه وجبهته من الأرض.
وقال (للمسيء صلاته): «إذا سجدت فَمَكِّن لسجودك»، وفي رواية: (إذا أنت سجدت فأمكنت
وجهك ويديك حتى يطمئن كل عظم منك إلى موضعه).
وكان يقول: «لا صلاة لِمَنْ لا يصيب أنفه من الأرض ما يُصيب الجبين».
وكان يُمَكّن أيضاً ركبتيه، وأطراف قدميه، ويستقبل بصدور قدميه (أو بأطراف
أصابعهما) القِبْلة، ويرص عقبيه، وينصب رجليه، وَأَمَر به، وكان يفتخ أصابعهما.
فهذه سبعة أعضاء كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد عليها: الكفان،
والركبتان، والقدمان، والجبهة والأنف.
وقد جعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضوين الأخيرين كعضو واحد في السجود؛
حيث قال: «أُمرت أن أسجد (وفي رواية: أُمرنا أن نسجد) على سبع أَعْظُمٍ: على
الجبهة- وأشار بيده على أنفه-، واليدين (وفي لفظ: الكفَّين)، والركبتين، وأطراف
القدمين، ولا نكفِت الثياب والشعر».
وكان يقول: «إذا سجد العبد سَجَد معه سبعة آراب؛ وجهه، وكفّاه، وركبتاه، وقدماه».
وقال في رجل صلى ورأسه معقوص من ورائه: «إنما مَثَلُ هذا مَثَلُ الذي يصلي وهو
مكتوفٌ».
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «ذلك كِفْلُ الشيطان»؛ يعني: مقعد الشيطان. يعني:
مغرز ضَفْره.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يفترش ذراعيه؛ بل كان ينهى عنه، وكان يرفعهما عن الأرض،
ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو بياض إبطيه من ورائه، وحتى لو أن بَهمة أرادت أن تمر
تحت يديه مرَّت، وكان يبالغ في ذلك حتى قال بعض أصحابه: إنْ كُنّا لنأوي لرسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يُجافي بيديه عن جنبيه إذا سجد..
وكان يأمر بذلك صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: «إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك».
ويقول: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط (وفي لفظ: كما يبسط)
الكلب».
وفي وحديث آخر: «ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب».
وكان يقول: «لا تبسط ذراعيك بَسْط السبُع، وادَّعْم على راحتيك، وتجافَ عن ضَبْعيك،
فإنك إذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك معك».
وجوبُ الطُّمأنينة في السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر «بإتمام الركوع والسجود، ويضرب لِمَنْ
لا يفعل ذلك مَثَلَ الجائع؛ يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئاً»، وكان يقول
فيه: «إنه من أسوأ الناس سرقةً».
وكان يحكم صلى الله عليه وسلم ببُطلان صلاة مَنْ لا يُقيم صُلبه في الركوع والسجود-
كما سبق تفصيله في (الركوع)-، وأَمَر (المسيء صلاته) بالاطمئنان في السجود- كما
تقدم في أول الباب-.
أذكارُ السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار
والأدعية، تارةً هذا، وتارةً هذا:
1- سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات)؛ وكان أحياناً يكررها أكثر من ذلك، وبالغ في
تكرارها مرةً في صلاة الليل حتى كان سجوده قريباً من قيامه، وكان قرأ فيه ثلاث سور
من الطوال: البَقَرَة والنِّسَاء وآلِ عِمْرَان، يتخللها دعاءٌ واستغفارٌ- كما سبق
في (صلاة الليل)-.
2- سبحان ربي الأعلى وبحمده (ثلاثاً).
3- سُبُّوح، قُدُّوس، رب الملائكة والروح.
4- سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ وكان يُكْثِر منه في ركوعه وسجوده؛
يتأول القرآن.
5- اللهم لك سجدت؛ وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربي، سَجَد وجهي للذي خَلَقَه
وَصَوَّره، فأحسن صُوَرَه، وشَقّ سَمْعه وَبَصَرَه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
6- اللهم اغفر لي ذنبي كله، ودِقّه وجِلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره.
7- سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء بنعمتك عليَّ، هذه يداي وما جَنَيْتُ
على نفسي.
8- سبحان ذي الجبروتِ، والملكوتِ، والكبرياءِ، والعظمة.
وهذا - وما بعده- كان يقوله في صلاة الليل.
9- سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت.
10- اللهم اغفر لي ما أسررتُ، وما أعلنتُ.
11- اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في
بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري
نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، واجعل في نفسي نوراً، وأَعْظِم لي
نوراً.
12- اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا
أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
النهيُ عن قراءة القرآن في السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود،
ويأمر بالاجتهاد والإكثار من الدعاء في هذا الركن- كما مضى في (الركوع)- وكان يقول:
«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء فيه».
إطالةُ السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل سجوده قريباً من الركوع في الطُّول،
وربما بالغ في الإطالة لأمر عارض، كما قال بعض الصحابة:
خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى صلاتي العشي- الظهر
أو العصر - وهو حامل حَسَناً أو حُسيناً، فتقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فوضعه عند قدمه اليمنى، ثم كَبّر لصلاة، فصلى، فسجد بين ظهرانَيْ صلاته
سجدةً أطالها، قال: فرفعت رأسي من بين الناس؛ فإذا الصبي على ظهر رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ساجد، فرجعتُ إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة؛ قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين
ظهرانَيْ صلاتك هذه سجدة أطلتها؛ حتى ظَنَنّا أنه قد حدث أَمْرٌ، أو أنه يوحى إليك!
قال: «كل ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أُعْجِله حتى يقضي حاجته».
وفي حديثٍ آخر: كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي؛ فإذا سجد وَثَبَ الحسن
والحسين على ظهره، فإذا منعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في
حِجْرِه، وقال: «مَنْ أحبني؛ فَلْيُحِبَّ هذين».
فضل السجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من أمتي أحد إلا وأنا أعرفه يوم
القيامة»، قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله! في كثرة الخلائق؟ قال: «أرأيت لو دخلت
صِيَرة فيها خيل دُهم بُهم، وفيها فرسٌ أغرُّ مُحَجَّلٌّ؛ أما كنت تعرفه منها؟»
قال: بلى، قال: «فإن أمتي يومئذٍ غُرٌّ من السجود، مُحَجَّلون من الوُضوء».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله رحمةَ مَنْ أراد من أهل النار أَمَرَ
الله الملائكةَ أن يُخْرِجوا مَنْ يعبد الله، فَيُخرِجونهم، ويعرفونهم بآثار
السجود، وحَرّمَ الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار، فكل ابن آدم
تأكله النار إلا أثر السجود».
السُّجودُ على الأرضِ والحَصِير
وكان يسجد على الأرض كثيراً.
وكان أصحابه يُصَلّون معه في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدهم أن يُمَكِّن جبهته من
الأرض بَسَطَ ثوبه فسجد عليه.
وكان يقول: «وجُعِلَت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطَهوراً، فأينما أدركَتْ رجلاً
من أُمّتي الصلاةُ فعنده مسجده، وعنده طَهوره، وكان مَنْ قبلي يُعَظِّمون ذلك؛ إنما
كانوا يُصَلّون في كنائسهم وَبِيَعِهم».
وكان صلى الله عليه وسلم ربما سجد في طين وماء، وقد وقع له ذلك في صُبح ليلة إحدى
وعشرين من رمضان؛ حين أمطرت السماء، وسال سقف المسجد- وكان من جريد النخل-، فسجد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الماء والطين، قال أبو سعيد الخدري: فأبصرت
عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر
الماء والطين.
وكان يصلي على الخُمْرة أحياناً.
وعلى الحصير أحياناً؛ وصلى عليه مرةً، وقد اسْوَدّ من طول ما لُبِس.
الرَّفعُ مِنَ السُّجود
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع رأسه من السجود مُكَبّراً، وأَمَرَ
بذلك (المسيء صلاته)؛ فقال: «لا يتم صلاة لأحد من الناس حتى... يسجد، حتى تطمئن
مفاصله، ثم يقول: (الله أكبر)، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً»، وكان يرفع يديه مع
هذا التكبير أحياناً.
الافتراش
ثم يفرش رجله اليسرى، فيقعد عليها مطمئناً، وَأَمَرَ بذلك (المسيء صلاته)؛ فقال له:
«إذا سجدت فَمَكِّن لسجودك فإذا رفعت فاقعد على فَخِذك اليسرى»، وكان ينصب رجله
اليمنى، ويستقبل بأصابعها القِبْلة.
الإقْعَاءُ بن السَّجْدتين
وكان أحياناً يُقعي؛ ينتصب على عقبيه، وصدور قدميه.
وجوبُ الاطمئنان بين السجدتين
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، وأَمَر
بذلك (المسيء صلاته)، وقال له: «لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك».
وكان يُطيلها حتى تكون قريباً من سجدته، وأحياناً يمكث حتى يقول القائل: (قد نسي).
الأذكار بين السَّجدتين
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذه الجلسة:
1- اللهم (وفي لفظ: رب!) اغفر لي، وارحمني، واجبُرني، وارفعني، واهدني، وعافني،
وارزقني.
وتارة يقول:
2- رب اغفر لي، رب اغفر لي.
وكان يقولهما في صلاة الليل.
ثم كان يُكَبِّر ويسجد السجدة الثانية، وأَمَرَ بذلك (المسيء صلاته)؛ فقال له بعد
أن أمره بالاطمئنان بين السجدتين- كما سبق-: «ثم تقول: الله أكبر، ثم تسجد حتى
تطمئن مفاصلك، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه مع هذا التكبير أحياناً.
وكان يصنع في هذه السجدة مثل ما صنع في الأولى، ثم يرفع رأسه مُكَبّراً؛ وَأَمَر
بذلك (المسيء صلاته)؛ فقال له بعد أن أَمَرَه بالسجدة الثانية- كما مر-: «ثم يرفع
رأسه، فَيُكَبِّر».
وقال له: «ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة؛ فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن أنقصت
منه شيئاً أنقصت من صلاتك».
وكان يرفع يديه أحياناً.