صفحة جديدة 2
جَوَازُ الاقتِصَارِ على الفَاتِحَة
و
كان معاذ رضي الله عنه يُصلي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
العشاء الآخرة، ثم يرجع فيصلي بأصحابه، فَرَجع ذات ليلة فَصَلّى بهم، وَصَلَّى فتى
من قومه من بني سَلِمة يقال له: (سُلَيْم)، فلما طال على الفتى انصرف فصلى في ناحية
المسجد، وخرج وأخذ بخِطام بعيره وانطلق، فلمّا صلى معاذ ذُكِرَ ذلك له، فقال: إن
هذا به لنفاق! لأُخْبِرَنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي صنع،
وقال الفتى: وأنا لأُخْبِرَنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي
صنع..
فغدوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره معاذ بالذي صنع
الفتى، فقال الفتى: يا رسول الله! يُطيل الْمُكْث عندك، ثم يرجع فيطيل علينا!
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَتّان أنت يا معاذ؟!».
وقال للفتى:كيف تصنع أنت يا ابن أخي إذا صليت؟
قال: أقرأ بـ: فاتحة الكتاب، وأسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، وإني لا أدري ما
دندنتك ودندنة معاذ.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني ومعاذ حول هاتين» أو (نحو
ذا).
قال: فقال الفتى: (ولكن سيعلم معاذ إذا قَدِم القوم)، وقد خُبِّروا أن العدو قد
أتوا.
قال: فقدموا، فاستُشهد الفتى.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك لمعاذ: «ما فعل خَصْمِي
وخَصْمُك؟».
قال: يا رسول الله! صدق الله وكذبتُ؛ استُشهد.
الجهرُ والإسرارُ في الصَّلوَاتِ الخَمْسِ وغَيْرِها
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وفي الركعتين
الأُوليَين من المغرب والعشاء، ويُسِرّ بها في الظهر والعصر، والثالثة من المغرب،
والأُخْرَيَيْنِ من العشاء.
وكانوا يعرفون قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما يُسِرُّ به- باضطراب
لحيته وبإسماعه إياهم الآية أحياناً.
وكان يجهر بها أيضاً في صلاة الجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والكسوف.
الجَهْرُ والإسْرارُ في القراءةِ في صلاةِ الليل
وأما في صلاة الليل: فكان تارة يُسِرُّ، وتارة يَجْهَر.
وكان إذا قرأ وهو في البيت يسمع قراءته مَنْ في الحُجْرة، وكان ربما رَفَعَ صوته
أكثر من ذلك حتى يسمعه مَنْ كان على عريشه (أي خارج الحجرة).
وبذلك أَمَرَ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ وذلك حينما خرج ليلةً فإذا هو بأبي بكر
رضي الله عنه يصلي يخفض من صوته، ومَرَّ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يصلي
رافعاً صوته..
فلمّا اجتمعا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: «يا أبا بكر! مررت
بك وأنت تصلي تخفض من صوتك؟» قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله.
وقال لعمر: «مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك؟»، فقال: يا رسول الله! أُوْقِظُ
الوَسْنَانَ، وأَطْرُدُ الشيطان.
فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئاً»،
وقال لعمر: «اخفض من صوتك شيئاً».
وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِرُّ
بالقرآن كالمُسِرِّ بالصدقة».
ما
كانَ يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات
وأما ما كان يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات من السور والآيات؛
فإن ذلك يختلف باختلاف الصلوات الخمس وغيرها، وهاك تفصيل ذلك- مبتدئين بالصلاة
الأولى من الخمس-:
أولاً: صلاةُ الفجر:
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها بطوال المفصل؛ فـكان أحياناً
يقرأ:
الواقعة، ونحوها من السور في الركعتين.
وقرأ من سورة الطُّور؛ وذلك في حجة الوداع.
وكان أحياناً يقرأ: (﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾[ق:1])،
ونحوها في الركعة الأولى.
وكان أحياناً يقرأ بقصار المفصل: كـ:
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾[التكوير:1].
وقرأ مرةً: إِذَا زُلْزِلَتْ في الركعتين كلتيهما؛ حتى قال الراوي: فلا أدري؛
أنَسِيَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم قرأ ذلك عمداً؟!
وقرأ صلى الله عليه وسلم مرة في السفر المعوذتين:
﴿قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾[الفلق:1]، و﴿قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[الناس:1]،
وقال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: «اقرأ في صلاتك المعوذتين؛ فما تَعَوَّذَ
مُتَعَوِّذٌ بمثلهما».
وكان أحياناً يقرأ بأكثر من ذلك؛ فـكان يقرأ ستين آية فأكثر، قال بعض رواته: لا
أدري في إحدى الركعتين أو في كلتيهما.
وكان يقرأ بسورة الرُّوم، وأحياناً بسورة يس.
ومرة صلى الصبح بمكة فاستفتح سورة المُؤْمِنِين حتى جاء ذِكَر موسى وهارون- أو:
ذِكْر عيسى، شك بعض الرواة-؛ أخذته سَعْلَة فركع.
وكان أحياناً يؤمهم فيها بـ «الصَّافَّات».
وكان يصليها يوم الجمعة بـ:
﴿الم﴾
﴿تَنزِيلُ﴾
السَّجْدَة في الركعة الأولى، وفي الثانية بـ:
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ﴾[الإنسان:1].
وكان يُطَوّل في الركعة الأولى، ويُقَصِّر في الثانية.
القراءةُ في سُنَّةِ الفَجْرِ
وأما قراءته في ركعتي سنة الفجر: فكانت خفيفة جدّاً؛ حتى إن عائشة رضي الله عنها
كانت تقول: هل قرأ فيها بـ: أم الكتاب؟!
وكان أحياناً يقرأ بعد الفَاتِحَة في الأولى منهما آية:
﴿قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[البقرة:136].
وفي الركعة الثانية يقرأ (وفي الأخرى منهما):
﴿قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[آل
عمران:64].
وربما قرأ بَدَلَها:
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ
مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[آل
عمران:52].
وأحياناً يقرأ:
﴿قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾[الكافرون:1]
في الأولى، و:
﴿قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1]
في الأخرى؛ وكان يقول: «نِعْمَ السُّورتانِ هما».
وسمع رجلاً يقرأ السورة الأولى في الركعة الأولى؛ فقال: «هذا عبد آمن بربه»، ثم قرأ
السورة الثانية في الركعة الأخرى؛ فقال: «هذا عبد عرف ربه».
2-
صلاة الظهر:
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين بـ: فاتحة
الكتاب وسورتين، ويُطَوِّلُ في الأولى ما لا يُطَوِّل في الثانية.
وكان أحياناً يُطيلها، حتى أنه كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع،
فيقضي حاجته، ثم يأتي منزله، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في الركعة الأولى؛ مما يُطَوِّلُها.
وكانوا يظنون أنه يريد بذلك أن يُدرك الناس الركعة الأولى.
وكان يقرأ في كل من الركعتين قدر ثلاثين آية، قدر قراءة
﴿الم﴾
﴿تَنزِيلُ﴾
السَّجْدَ، وفيها الفَاتِحَة.
وأحياناً كان يقرأ بـ
﴿وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ﴾[الطارق:1]، ﴿وَالسَّمَاءِ
ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾[البروج:1]، ﴿وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى﴾[الليل:1]
ونحوها من السور.
وربما قرأ ﴿إِذَا
السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾[الانشقاق:1]
ونحوها.
وكانوا يعرفون قراءته في الظهر والعصر باضطراب لحيته.
وكان يُسْمِعهم الآية أحياناً.
قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آياتٍ بعدَ الفَاتِحَة في الأخِيرَتَيْنِ
«وكان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأُولَيين قدر النصف؛ قدر خمس عشرة آية».
وربما اقتصر فيهما على الفَاتِحَة.
وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة
وقد أَمَر (المسيء صلاته) بقراءة الفَاتِحَة في كل ركعة؛ حيث قال له بعد أن أَمَرَه
بقراءتها في الركعة الأولى: «ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» (وفي رواية: كل ركعة).
وكان يُسمعهم الآية أحياناً.
وكانوا يسمعون منه النَّغْمَةَ بـ:﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾[الأعلى:1]،و:﴿هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾[الغاشية:1].
وكان أحياناً يقرأ بـ:
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾[البروج:1]وبـ:
﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾[الطارق:1]ونحوهما
من السور، وأحياناً يقرأ بـ:
﴿وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى﴾[الليل:1]
ونحوها.
3-
صلاة العصر:
وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الأُوليين بـ: فاتحة
الكتاب، وسورتين؛ وُيطَوِّلُ في الأولى ما لا يُطَوِّلُ في الثانية، وكانوا يظنون
أنه يريد بذلك أن يُدركَ الناسُ الركعةَ.
وكان يقرأ في كل منهما قَدْر خمس عشرة آية؛ قَدْر نصف ما يقرأ في كل ركعة من
الركعتين الأُولَيين في الظهر.
وكان يجعل الركعتين الأَخيرتين أقصر من الأُولَيين؛ قَدْر نصفهما.
وكان يقرأ فيهما بـ: فاتحة الكتاب.
وكان يُسمعهم الآية أحياناً.
ويقرأ بالسور التي ذكرنا في (صلاة الظهر).
4-
صلاة المغرب:
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها أحياناً بقصارِ المُفَصّل، حتى
إنهم كانوا إذا صلَّوا معه، وسلَّم بهم انصرف أحدهم وإنه ليُبْصِرُ مَواقعَ
نَبْلِه.
وقرأ في سفر بـ:
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾[التين:1]في
الركعة الثانية.
وكان أحياناً يقرأ بطوال المفصَّل وأوساطه.
وكان أحياناً يقرأ بطوال المفصَّل وأوساطه؛ فكان تارة يقرأ بـ:
﴿الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾[محمد:1]،
وتارة بـ: الطُّور، وتارة بـ: المُرْسَلَات؛ قرأ بها في آخر صلاة صلاها صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان أحياناً يقرأ بطُولَى الطُّولَيَيْن: الأَعْرَاف.
وتارة: بـ: الأَنْفَال في الركعتين.
القراءة في سُنَّة المغرب
وأمّا سُنَّةُ المغرب البَعْدِيِّة: فـكان يقرأ فيها:
﴿قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾[الكافرون:1]، و﴿قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1]
5-
صلاة العشاء:
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين من وسط
المُفَصَّل؛ فـكان تارةً يقرأ بـ:
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾[الشمس:1]،
وأشباهها من السور، وتارة بـ:
﴿إِذَا
السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾[الانشقاق:1]؛
وكان يسجد بها.
وقرأ مرة في سَفَرٍ بـ:
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾[التين:1]
في الركعة من صلاة العشاء؛ ونهى عن إطالة القراءة فيها؛ وذلك حين صلى معاذ بن جبل
لأصحابه العشاء فطوّل عليهم؛ فانصرف رجل من الأنصار فصلى، فأُخْبِرَ معاذ عنه،
فقال: إنه منافق، ولَمّا بلغ ذلك الرجلَ دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فأخبره ما قال معاذ؛ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أتريد أن تكون فتاناً يا معاذ؟! إذا أممتَ الناس؛ فاقرأ بـ:
﴿وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا﴾[الشمس:1]،
و: ﴿سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾[الأعلى:1]،
و: ﴿اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ﴾[العلق:1]،
و:
﴿وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى﴾[الليل:1]؛
فإنه يصلي وراءك الكبير، والضعيف، وذو الحاجة.
6-
صلاة الليل:
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جَهَر بالقراءة فيها، وربما أسرَّ؛
يُقَصِّر القراءة فيها تارة، ويُطيلها أحياناً، ويبالغ في إطالتها أحياناً أخرى،
حتى قال ابن مسعود: «صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلةً، فلم
يزل قائماً حتى هَمَمْتُ بأمر سوء!» قيل: وما هَمَمْتَ؟! قال: «هَمَمْتُ أن أقعد
وأَذَرَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وقال حُذيفة بن اليمان: «صلّيتُ مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات
ليلة، فافتتح البَقَرَة. فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى، فقلتُ: يصلي بها في ركعتين،
ثم مضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النِّسَاء فقرأها، افتتح آلِ عِمْرَان فقرأها،
يقرأ مُتَرَسِّلاً؛ إذا مَرَّ بآية فيها تسبيح سَبَّح، وإذا مَرَّ بسؤال، وإذا
مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثم ركع... الحديث.
وقرأ ليلة- وهو وَجِعٌ- السبع الطوال.
وكان أحياناً يقرأ في كل ركعة بسورة منها.
وما عُلِمَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ القرآن كله في ليلة قَطْ؛ بل
إنه لم يَرْضَ ذلك لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ حين قال له: «اقرأ القرآن في
كل شهر»، قال: قلت: إني أجد قوة، قال: «فاقرأه في عشرين ليلة»، قال: قلت: إني أجد
قوة، قال: «فاقرأه في سَبْعٍ، ولا تزد على ذلك»..
ثم
رَخَّصَ له أن يقرأه في خمس.
ثم
رَخصَ له أن يقرأه في ثلاث، ونهاه أن يقرأه في أقل من ذلك؛ وعَلَّلَ ذلك في قوله
له: «مَنْ قَرَأَ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقَهْهُ»، وفي لفظ: «لا يفقه مَنْ
قَرَأَ القرآن في أقل من ثلاث».
ثم
في قوله له: «فإن لكل عابد شِرَّةً، ولكل شِرَّةٍ فترة، فإما إلى سُنّة، وإما إلى
بدعة، فَمَنْ كانت فترته إلى سُنّة فقد اهتدى، ومَنْ كانت فترته إلى غير ذلك فقد
هَلك».
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثٍ، وكان يقول: «مَنْ
صَلّى في ليلة بمئتي آية فإنه يُكْتَبُ من القانتين المخلصين».
وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في كل ليلة بـ: بني إسرائيل، والزُّمَر.
وكان يقول: «مَنْ صَلّى في ليلة بمئة آية لم يُكْتَب من الغافلين».
وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يقرأ في كل ركعة قدر خمسين آية أو أكثر، وتارة
يقرأ قَدْرَ يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ، وما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصلي الليل كلَّه إلا نادراً.
فقد راقب عبدُ الله بنُ خبَّاب بن الأرَتِّ- وكان قد شهد بدراً مع رسولَ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الليلة كلها (وفي لفظ: في ليلة صلاها كلها) حتى كان مع الفجر، فلما سلَّم من صلاته؛
قال له خَباب بن الأَرَتِّ: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي؛ لقد صليت الليلة صلاة ما
رأيتك صليت نحوها؟) فقال: «أجل؛ إنها صلاةُ رَغَبٍ ورَهَب، وإني سألت ربي عز وجل
ثلاث خصال؛ فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة؛ سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم
قبلنا (وفي لفظ: أن لا يهلك أمتي بسَنَةٍ) فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل أن لا
يُظْهِرَ علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لايُلْبِسَنا شِيَعاً
فَمَنَعَنِيْهَا».
وقام ليلة بآية يُرَددها حتى أصبح وهي:
﴿إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[المائدة:118]
بها يركع، وبها يسجد، وبها يدعو، فلما أصبح قال له أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول
الله! ما زِلتَ تقرأ هذه الآية حتى أصبحت؛ تركع بها، وتسجد بها، وتدعو بها، وقد
علَّمَك الله القرآن كله، لو فعل هذا بعضُنا لَوَجَدْنَا عليه؟ قال: «إني سألت ربي
عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نَائِلَةٌ إن شاء الله لِمَنْ لا يُشْرِك
بالله شيئاً».
وقال له رجل: يا رسول الله! إن لي جاراً يقوم الليل، ولا يقرأ إلا قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ؛ يرددها لا يزيد عليها- كأنه يُقَلِّلُها-؟! فقال النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن».
7-
صلاةُ الوِتْرِ (الوَتْر):
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ: في الركعة الأولى:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾[الأعلى:1]،
وفي الثانية-:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾[الكافرون:1]،
وفي الثالثة:
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1]؛
وكان يضيف إليها أحياناً:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾[الفلق:1]،
و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[الناس:1].
ومرة: قرأ في ركعة الوتر بمئة آية من النِّسَاء.
وأما الركعتان بعد الوتر: فكان يقرأ فيهما:
﴿إِذَا
زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾[الزلزلة:1]، و﴿قُلْ يَا
أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾[الكافرون:1].