صفحة جديدة 1
قتْل محمد بن أبي بكر الصديق
فلمّا كانت سنة ثمان وثلاثين أرسل معاوية عمرو بن العاص في ستة آلاف، فسار حتى نزل
أداني مصر، فجاءه مَنْ خالف على محمد بن أبي بكر وطالَب بدم عثمان، فاجتمعوا به..
وكتب إلى محمد: أمّا بعد... فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني
ظفر، إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك وهم مُسلموك فاخرج منها إني لك من
الناصحين)..
فكتب محمد إلى علي بالخبر واستمده، فأرسل إليه أن يضم شيعته إليه ويأمره بالصبر
ويَعِده بإنفاذ الجيوش إليه..
فقام محمد في الناس وندبهم إلى الخروج معه فانتدب له ألفان، أَمَّر عليهم كنانة بن
بِشر، فَسَيَّرَهم أمامه، وتوجه هو بألفين لقتال عمرو..
فلمّا التحم كنانة بجيوش الشام ومعهم معاوية بن خديج من أهل مصر انهزم المصريون
وقُتِل كنانة..
فلمّا سمع بذلك مَنْ مع محمد تفرّقوا عنه فاختفى..
أمّا
عمرو فإنه سار حتى نزل الفسطاط وخرج معاوية بن خديج يطلب محمد بن أبي بكر حتى التقى
به فقتله.
ولمّا بلغ قتله أم المؤمنين عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً وضمت إليها أولاده.
وبقتْل محمد صارت مصر في طاعة معاوية بن أبي سفيان، وبايع له أهلها..
أمّا المدد الذي أرسله أمير المؤمنين لمساعدة محمد بن أبي بكر فإنه بلغهم وهم في
الطريق قتله فرجعوا.
وبعد أن تم لمعاوية أمر مصر سَيَّر إلى البصرة عبد الله بن الحضرمي وكان عليها إذ
ذاك زياد بن أبي سفيان خليفة لابن عباس، فاجتمع إلى ابن الحضرمي جمْع كثير من بني
تميم كانوا يطالبون بدم عثمان، فطلب منهم المساعدة فقام إليه الضحاك بن قيس- وكان
على شرطة ابن عباس- فقال له: قبح الله ما جئتنا به وما تدعونا إليه، نحن الآن
مجتمعون على بيعة علي، وقد أقال العثرة وعفا عن المُسيء، أفتأمرنا أن ننتضي أسيافنا
ويضرب بعضنا بعضاً ليكون معاوية أميراً؟!
فقام عبد الله بن خازم السلمي، وقال للضحاك: اسكت فلست بأهل لأن تتكلم.
وقال لعبد الله: نحن أنصارك ويدك والقول قولك..
فلمّا رأى ذلك زياد استجار بالأزْد، فأجاروه هو وبيت المال..
وأرسل إلى علي بالخبر فبعث إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي التميمي ليُفَرِّق تميم عن
ابن الحضرمي، فقُتِل غِيلةً..
فلمّا بلغ ذلك علياً أرسل جارية بن قدامة السعدي فسار إلى البصرة وخطب الأزد
وجزّاهم عن أمير المؤمنين خيراً، وقرأ على أهل البصرة كتاب علي يهددهم ويتوعدهم فيه
بحرب أشد من وقعة الجمل.
فأجابه أكثر أهل البصرة فسار إلى ابن الحضرمي وقاتله هو ومَنْ معه حتى هزمه فتبعوه
حتى قُتِل.
ثم صار معاوية يوجّه السرايا إلى بلاد أمير المؤمنين ليُدْخِلها في طاعته، وسَيّر
يزيد بن شجرة إلى مكة ليحج بالناس ويبايع أهلها على طاعته، وكان واليها من قِبَل
علي قُثَم بن العباس وليس عنده قوة يقاتل بها فلم يُقْدِم على القتال..
فأمّا ابن شجرة فأمّن الناس إلا مَنْ قاتل..
وأرسل إلى أبي سعيد الخدري يُخبره أن يأمر قثم ألا يصلي بالناس ولا يصلي أيضاً ابن
شجرة ويختار الناس مَنْ يصلي، فاختاروا شيبة بن عثمان فصلى بهم وتم الحج بسلام، ولم
يحصل إلحاد في الحرم حذراً من وعيده تعالى في قوله:
﴿وَمَنْ
يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[الحج:25]
وصارت السرايا بعد ذلك تتردد بين الجهتين وكُلٌّ يريد جمْع الكلمة فلم يتيسر ذلك
لأحدهما، ولكن الحجاز واليمن دخل أهلوهما في طاعة معاوية حينما سَيّر إليهما بُسْر
بن أرطاة العامري..
فلم يعد مُستمسكاً ببيعة أمير المؤمنين إلا العراق وما والاها من بلاد فارس وكلها
نار تضطرم بالخلاف والشقاق؛
فريق شيعة لعلي..
وآخرون خوارج لا يريدون علياً ولا معاوية..
وفريق منافق؛ يُظهر طاعة علي ويُخفي عِداءه..
فَمَلَّهم أمير المؤمنين وسئم إمارته عليهم حتى خاطبهم بذلك في كثير من خطبه.
مقتل أمير المؤمنين علي
وفي السنة الأربعين من الهجرة النبوية أراحه الله من هذا الشقاق المتتابع والخلاف
المستعصي فضمه إلى إخوانه من الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً..
وسبب ذلك أنه اجتمع ثلاثة من الخوارج وتذاكروا ما حل بإخوانهم من الخوارج وكرهوا
المقام بعدهم فاتفقوا على أن يذهب أحدهم وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي إلى الكوفة
فيقتل علياً، ويذهب الثاني وهو البرك بن عبد الله التميمي إلى الشام فيقتل معاوية
ويذهب ثالثهم وهو عمرو بن بكر التميمي إلى مصر فيقتل عمرو بن العاص، واتّعدوا بينهم
ليلة ينفذون فيها ما اتفقوا عليه..
فأمّا البرك فذهب إلى معاوية وانتظره في صلاة الصبح فضربه بالسيف فوقع في أليته ولم
يُمته فأمر به معاوية فقُتِل.
وأمّا عمرو بن بكر فذهب إلى عمرو ولحُسْن حظه لم يخرج إلى الصلاة في ذلك اليوم
لمرضه، فكان يصلي بالناس خارجة بن حبيب السهمي، فضربه الخارجي فقتله ظناً منه أنه
عمرو، فخاب ظنه وقُبِض عليه فقُتِل..
وأمّا عبد الرحمن بن ملجم فقصد الكوفة وانتظر أمير المؤمنين في صبح الليلة التي
اتعدّ فيها الخوارج، وهي ليلة الجمعة لسبع خلون من رمضان، فبينما أمير المؤمنين
ينادي الناس الصلاة الصلاة إذ ضربه هذا الشقي بسيفه قائلاً: الحكم لله لا لك يا علي
ولا لأصحابك..
فقال علي: لا يفوتكم الرجل فشد عليه الناس وأخذوه وقدّم جعدة بن هبيرة يصلي بالناس
الصبح..
ثم قال رضي الله عنه: النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيتُ فيه
رأيي..
يا بني عبد المطلب! لا ألفيَنّكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قُتِل أمير المؤمنين،
ألا لا يُقتلنّ إلا قاتلي..
انظر يا حسن: إن أنا مت من ضربتي هذه فاضربه ضربة بضربة ولا تُمَثِّلَنّ ،بالرجل
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»..
ودخل جندب بن عبد الله فقال: يا أمير المؤمنين! إن فقدناك- ولا نفقدك- فنبايع
الحسن؟
فقال: ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر..
ثم دعا الحسن والحسين فقال لهما: (أوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا وإن
بغتكما، ولا تبكيا على شيء زُوي عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأعينا الضائع،
واصنعا للأخرى، وكونا للظالم خصيماً، وللمظلوم ناصراً، واعملا بما في كتاب الله ولا
تأخذكما في الله لومة لائم) ..
ثم نظر إلى محمد الأكبر بن الحنفية فقال له: هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟
قال: نعم.
قال: فإني أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك، وتزين أمرهما، ولا
تقطع أمراً دونهما..
ثم قال للحسن والحسين: أوصيكما به فإنه شقيقكما وابن أبيكما وقد علمتما أن أباكما
كان يحبه.
وقال للحسن: أوصيك أي بني بتقوى الله وإقام الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة عند محلها
وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بطهور وأوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ وصلة الرحم
والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبت في الأمر والتعاهد للقرآن وحسن الجوار
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش..
ثم لم يزل يذكر الله حتى مات رضي الله عنه، فغَسّله ولداه الحسن والحسين وابن أخيه
عبد الله بن جعفر، وكُفِّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وكبَّر عليه الحسن سبع
تكبيرات..
ومكث رضي الله عنه في الخلافة أربع سنين وسبعة أشهر وأياماً أراد الله فيها أن يذيق
الأمة فيها كأس الضر من الاختلاف عليه لتكون قد ذاقت الأمرين؛ السراء والضراء،
والأخوة والشقاق، فتختار لنفسها ما يوفقها الله له..
وقد كان الله سبحانه وتعالى يُعلم الأمة المحمدية في عصر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعقاب يعجّله جزاءً على أعمال لتحذير الأُمة من العودة لها؛ كما عاقب بالهزيمة
في غزوة أُحد إذ فشل المسلمون وتنازعوا في الأمر وعصوا الرسول فلم يعد المسلمون بعد
ذلك لشيء من هذه الثلاث لعلمهم بأنه
يُبعدهم عن الله جل ذِكره، وما داموا كذلك فنَصْره بعيد عنهم..
وكذلك في هذه الواقعة أراد الله أن يعاقبهم على ما فعله بعضهم في خليفتهم الذي
بايعوه وتعهدوا بطاعته ثم نكثوا بيعته وقتلوه ظلماً فعاقبهم الله بهذا العقاب
الشديد، وأوقع بأسهم بينهم حتى لا يعودوا لتفريق كلمتهم وشق عصا أئمتهم..
نسأل الله التوفيق.
ولما استُشهد علي رضي الله عنه بايع أهل الكوفة ابنه الحسن، وأوّل مَنْ بايعه قيس
بن سعد بن عبادة، قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال
المُحِلِّين..
فقال الحسن: على كتاب الله وسنة نبيه فإنهما يأتيان على كل شرط..
فبايعه الناس على ذلك.
الحسن
هو الحسن بن علي بن أبي طالب وأُمّه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وُلِد بالمدينة المنورة في السنة الثالثة من الهجرة.
وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه السلام يحبه حباً شديداً
هو وأخوه الحسين وقال في حق الحسن «اللهم إني أحبه فأحبه (وأَحِب) وأحْبِب مَنْ
يحبه»..
وقال فيه كما رواه البخاري في صحيحه: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين
طائفتين عظيمتين من المؤمنين»..
ولم يحضر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم لصِغَر سِنّة فقد توفي عليه الصلاة
والسلام وقد جاوز السبع سنين..
ولمّا فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء أدخل الحسن في أهل بدر لمكانه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم..
وكان ممَّنْ دافع عن عثمان وأبلى في ذلك بلاءً حسناً حتى نهاه عثمان رضي الله عنه..
ولمّا بويع أمير المؤمنين علي كان الحسن معه في جميع مشاهده ولما قُتِل علي رضي
الله عنه أجمعت شيعة أبيه على بيعته..
وله كثير من الأولاد من أمهات شتى لم يعقب منهم إلا ابناه الحسن المثنى وزيداً.